الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي في سورية ج1
الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي في سورية
الإنتاج الزراعي والمحاصيل الإستراتيجية : إنّ انخفاض الإنتاج الزراعي يكون عادةً نتيجة لعدة أسباب منها : ارتفاع الضرائب على الملكيات الزراعية ، أو الانهيار في أسعار المحاصيل الزراعية ، بالإضافة إلى عدم توفـّر كميات المياه اللازمة للسقي والريّ ، كما يؤدّي الإهمال في إدارة الأراضي ، والزيادة الكبيرة في أسعار الأسمدة والأدوية ، والإنهاك المتصاعد للمزارعين والفلاحين ، إلى تدمير الاقتصاد الزراعي في البلاد. فالزراعة هي القطاع الاقتصادي الأضعف في النظام الاقتصادي في أي بلد من بلدان العالم ، فمحصول زراعي، واحد، رديء ، سـيّء ، يؤدّي بالتأكيد إلى أزمة اقتصادية حادة تستمر إلى عدة سنوات .
كما أنّ الإنتاجية في الأراضي الفردية ذات المساحات الصغيرة تبقى أعلى منها في الأراضي الجماعية ذات المساحات الكبيرة ، فالأراضي الصغيرة تنتج المواسم التكميلية ، مثل الفواكه والخضار ، وتهتم بالثروة الحيوانية ، بينما المزارع ذات المساحات الواسعة ، التي تحتاج إلى عمل جماعي ، تخصّص غالباً لزراعة المحاصيل الإستراتيجية للدولة ، مثل الحبوب والقطن والزيتون والشوندر، وتحتاج مثل هذه المزارع إلى دعمها بالعمل الميكانيكي المتطوّر ، بدل الجهد البشري المتواضع ، وكذلك تحتاج إلى دعمها بالأسمدة والأدوية ومياه الري ، بأقل التكاليف المالية .
إنّ أهم المحاصيل الإستراتيجية في سوريا هي الحبوب والقطن والزيتون ، والشوندر ، بالإضافة إلى الثروة الحيوانية ، وهذه المحاصيل تتميّز بوفرتها وجودة نوعيتها ومواصفاتها المنافسة على المستوى العالمي ، فهذه المنتجات يجب تخزينها والاستفادة من فائض الإنتاج في المحصول السنوي كاحتياطي استراتيجي ، يخزّن لعدة سنوات قادمة ، وبالتالي فهي محاصيل يجب أن تدعم الأمن الغذائي والصناعي للدولة خلال عقد كامل من الزمن، على الأقل ، وبالتالي لا يجوز لأي حكومة التفريط أو الإفراط بالمخزون الاستراتيجي للدولة ، مهما كانت الأسباب والذرائع .
إنّ المدة الزمنية التي يجب أن تحتفظ بها الدولة بالمحاصيل الإستراتيجية، كالحبوب والقطن والزيت ،والثروة الحيوانية من الماشية والدواجن ، وغيرها ، كمخزون استراتيجي احتياطي ، يجب أن لا تقل عن سبع سنوات ، أو إلى مدة لا تقل عن دورة مناخية كاملة ، على أن يبقى المخزون مستقر أو في زيادة مستمرة كل عام . فالمناخ في منطقتنا العربية غير مستقر، وبالتالي الإنتاج سينخفض طالما أنّ كميات الأمطار لا تكفي خلال سنوات الجفاف . فمن الخطأ الفاحش ، المدمّر لاقتصادنا ، أن تجعل أي حكومة مخزوناتها الاحتياطية من المواد الغذائية الاستراتيجية ، لا تكفيها أكثر من عام واحد أو عامين فقط ، وهذا ما يُسمّى بالانتحار الاقتصادي .
الإنتاج الزراعي والمحاصيل الزراعية التكميلية : والمحاصيل الزراعية التكميلية، هي محاصيل داعمة للاقتصاد الوطني ، لكن لا يمكن تخزينها لمدة طويلة من الزمن ، وغالباً لا تتجاوز مدة تخزينها أكثر من ستة أشهر ، وأهم هذه المحاصيل هي الفواكه والخضار ، نعم هذه المحاصيل تكميلية لا يحتاجها المواطن في قوته اليومي ، لكنها غالباً ما تدعم الحالة الصحية للإنسان ، وتجعله بقوة ونشاط دائمين . كما تبرز أهمية مثل هذه المحاصيل في الاقتصاد الوطني فهي قادرة على استجرار النقد الأجنبي من الخارج ، بشكل مستمر وملحوظ ، من خلال تصديرها إلى باقي دول العالم ، فأغلب دول العالم لا يمكنها إنتاج مثل هذه المحاصيل ، بسبب حاجتها إلى توفّر مياه الري والسقي بكميات كبيرة ، وكذلك تحتاج إلى المناخ الجوي ، والبيئة الجغرافية ، المناسبة ، وإلى الأيدي العاملة الخبيرة بمثل هذا المجال في الزراعة .
إنّ دعم الملكيات الصغيرة ، التي تخصّص غالباً لزراعة المحاصيل التكميلية ، بالمياه الوفيرة ، والأسمدة والأدوية بأسعار منخفضة ، يزيد من إنتاجها بشكل طردي ملحوظ ، فأغلب أشجار الفواكه تعمّر لعشرات السنين ، إذن فهي وسيلة إنتاج معمّرة ،إنتاجها يدوم لمدة طويلة جداً من الزمن ، وبالتالي سيتم دعم الاقتصاد الوطني للدولة ، بشكل مطّرد ، من النقد الأجنبي ، العائد من صادرات الإنتاج الزراعي التكميلي ، الذي تفتقده الكثير من الدول ، العربية والإفريقية والآسيوية.
الإنتاج الحيواني والثروة الحيوانية في سورية : لا شكّ أنّ معظم أنواع الماشية والدواجن المتوفرة في سوريا هي من الأنواع والسلالات الجيدة جداً ، وهي ثروة وطنية استمرت منذ آلاف السنين ، وأعتمد عليها المواطن السوري ، اقتصادياً وغذائياً ، خلال تلك المدة الطويلة ، وهي ستبقى من أهم الركائز الأساسية للأمن الغذائي والاقتصادي للمواطن السوري ، ولا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال ، لكن هذه الثروة الحيوانية الوطنية بحاجة إلى دعم كبير لتلبية جميع متطلباتها ، فهي تحتاج إلى الغذاء ومياه السقي ، والرعاية الصحية المستمرة ، واستمرار الطلب عليها في الأسواق . واستمرار الثروة النباتية وازدهارها يؤدّي حتماً إلى استمرار وازدهار الثروة الحيوانية ، ولا يمكن أبداً فك الارتباط القائم في العلاقة المتبادلة بينهما ، ففقدان إحداها يؤدّي حتماً إلى فقدان الأخرى خلال مدة زمنية وجيزة . فالإنسان بحاجة إلى ثروة حيوانية تدعم غذائه ، والأرض بحاجة إلى ثروة حيوانية لتخديمها ، خاصة في دول العالم الأشد فقراً ، وكذلك الثروة الحيوانية بحاجة إلى الإنسان ليرعاها ، وأراضي زراعية تمنحها الغذاء المناسب والوافر .
إنّ وطننا السوري فقـدَ خلال الأعوام القليلة الماضية نسبة كبيرة من ثروته الحيوانية ، من ماشية ودواجن ، بسبب عدم توفـّر الأعلاف إلا بأسعار مرتفعة جداً، وقلة الأمطار الهاطلة في المواسم، وزيادة الطلب على التصدير، العشوائي ، والارتجالي ، إلى الدول المجاورة . إذاً فالثروة الحيوانية في سوريا واحدة من أهم دعائم الاقتصاد الزراعي الوطني ، وهي في خطر كبير ، ويجب أن تعامل معاملة المخزونات الإستراتيجية الزراعية ، بالمحافظة عليها بكل الوسائل ، لمدة لا تقل عن سبعة سنوات قادمة ، ودعمها بكل الإمكانيات المتوفـّرة ، من أجل الحفاظ على أمننا الغذائي .
الإنتاج الزراعي الثانوي : وهو عبارة عن المحاصيل الزراعية العشبية (الحشائش والأعشاب الطبية المنتشرة في سوريا بكثافة) ، ولهذه المحاصيل أهمية كبيرة ، فهي تدعم الوضع الصحي للمواطن ، لأنها توفّر الكثير من الفيتامينات ، والكثير من المواد الطبية الطبيعية ، فهي ثروة وطنية يمكن استغلالها في الداخل ، أو تصدير الكثير منها إلى خارج البلد ، وسوريا بلدٌ غنية جداً بمثل هذه الأعشاب ، لكن هذه المحاصيل بحاجة إلى دعم حكومي حقيقي، واهتمام كبير وتشجيع ، للعمل على جمعها وتصنيعها وتعليبها، لسدّ حاجة المواطن السوري منها ، وتصدير الفائض للخارج ، بغية استجرار النقد الأجنبي من الدول الأخرى .
العلاقة بين الصناعة الوطنية والإنتاج الزراعي : إن وطننا العربي على العموم ، ومنها بلدنا الحبيب سوريا ، وطن زراعي بامتياز، وتجاري بتفوّق ، لكن حتى الآن ليس وطن صناعي أبداً. وهذا بسبب الظروف السياسية والعسكرية السابقة التي مرّ بها وطننا العربي ، خلال القرون الماضية ، من احتلال عسكري ، وهيمنة استعمارية غربية ، فرضت علينا مناهج وأساليب تعليم متخلـّفة ، في كل مراحل التعليم ، ولا زالت مستمرة ليومنا الحاضر، جعلتنا أمة جاهلة متخلـّفة ، فقيرة مادياً وعلمياً ، وخاصة في مجال التصنيع ، السلمي والحربي ، البدائي والتقني . فالدول العربية دول متخلفة صناعياً عن الدول الأوروبية والغربية ، عشرات السنين ، ولم يتواجد حتى الآن نوايا حقيقية ، في معظم الدول العربية ، للنهوض بالقطاع الصناعي إلى المستويات العلمية والتقنية المطلوبة ، فقد آثرت معظم الحكومات العربية ، منذ استقلالها ، استيراد بضائعها الاستهلاكية جاهزة ً، للاستهلاك المحلي ، من دون تكليف نفسها عناءً أو تعباً لتصنيعها . وإنّ معظم الصناعات المتواضعة القائمة في بلادنا العربية ، تعتمد بشكل أو بآخر على الإنتاج الزراعي أو الحيواني المتوفّر في بلادنا ، فهي إما تعتمد على الإنتاج الزراعي ، كمادة أولية يتمّ تحويلها أو تخزينها أو تعليبها بأساليب متعددة ، ومن ثـَمّ تصديرها إلى دول عربية مجاورة أو استهلاكها في السوق المحلية ، أو تجعل من صناعاتها التحويلية التجميعية مادة للاستهلاك الزراعي أو أدوات بيد طبقة العمال من الفلاحين والمزارعين ، فمثلاً صناعة تعبئة الأدوية الزراعية ، والأنابيب الزراعية ، والصناديق البلاستيكية ، هي للاستهلاك الزراعي ، وصناعة الأسمدة الكيميائية إنما هي مادة ووسيلة هامّة في الإنتاج الزراعي ، وصناعة العدد المعدنية وتجميع الجرارات ، إنّما هي لخدمة القطاع الزراعي ، وصناعة التعليب والتغليف تعتمد على الزراعة والثروة الحيوانية ، وغيرها الكثير من الصناعات التي تستهدف قطاع الزراعة أو العاملين في هذا القطاع ، لخدمة الإنتاج الزراعي ، أو استغلال منتجاته . وبالتالي فإن العلاقة بين صناعتنا الوطنية المتواضعة ، القائمة في سوريا، وبين الإنتاج الزراعي هي علاقة قوية ووثيقة ، باتجاه واحد ، فقطاع زراعي جيد قوي يؤدّي إلى قطاع صناعي ونشاط صناعي قوي ، ومستقر ، والعلاقة العكسية لا تتحقق لبدائية صناعتنا وتواضعها ، بينما نلاحظ أنّ العلاقة بين هذين القطاعين الاقتصاديين في الدول المتقدّمة علاقة متبادلة ، فكل قطاع يخدم الآخر ، ويساعد على تطويره بقوة وسرعة ، بشكل مطرد متبادل ، ملحوظ . فتدمير الإنتاج الزراعي سيضرّ حتماً بالصناعات البدائية المتواضعة المتوفّرة لدينا ، وإفقار المزارع والفلاح سيؤدّي حتماً إلى انهيار القطاع الصناعي المعتمد أصلاً في تصدير منتجاته على الطبقة الواسعة من المزارعين والفلاحين ، إما بتصنيع أدواتهم البدائية وحاجياتهم وتوفيرها لهم ، أو بتصنيع المنتجات الزراعية وتحويلها وتصريفها في الأسواق المحلية أو الخارجية .
العلاقة بين التجارة الوطنية والإنتاج الزراعي : لا أحد يشكّ بأنّ العلاقة بين الإنتاج الزراعي والمحاصيل الزراعية بكلّ أنواعها وبين القطاع التجاري هي علاقة حقيقية وثيقة لا يمكن أن تنفك ، وهي علاقة تبادلية مطّردة ، فوجود أحدهما يدعم وجود الآخر، فلا تجارة في بلدنا هذا من غير إنتاج زراعي وفير ، ولا إنتاج زراعي جيد من غير تجارة مزدهرة ، تؤمّن تصريف الإنتاج في الداخل أو الخارج . فنحن نعلم أنّ إنتاج زراعي متدهور يعني بكل تأكيد أنّ التجارة الداخلية أولاً ، والخارجية ثانياً ، ستفقد الكثير من نشاطها وحيويتها . وكذلك قوانين تجارية سيئة ، غير مدروسة ، أو غير مخططة بشكل ممتاز على المدى البعيد ، ستؤدّي إلى انهيار في النشاط الاقتصادي التجاري ، وبالتالي تراجع في الإنتاج الزراعي : نتيجة لتراكم المحاصيل الزراعية عند المنتجين، ونتيجة لزيادة العرض وانخفاض الطلب في السوق المحلية ، وبالتالي انهيار الأسعار. فالضعف في تصريف الفائض في المحاصيل الزراعية وانهيار الأسعار في الأسواق الداخلية يؤدّي إلى قلة الموارد المالية لطبقة المزارعين والفلاحين، وبالتالي إفقار أو إفلاس المُنتِـج الزراعي – الفلاح والمزارع .
لذلك من أجل زيادة الإنتاج الزراعي لا بدَّ من وجود قوانين اقتصادية تجارية مرنة بمستوى عالٍ ، وتخطيط دقيق جداً ، يغطي فترات زمنية محدودة ، مع مراقبة النتائج والأسواق بشكل آني ، وتعديل القوانين والقرارات بما يلائم الوضع الآني للسوق . وهذه القوانين والقرارات والخطط يجب أن تهتم بالعلاقة المتبادلة بين الإنتاج الزراعي السنوي والعملية التجارية الداخلية أو الخارجية ، على أن تكون القوانين الصادرة متوازنة ومترابطة ، تحافظ على مصالح طبقة المنتجين ، من المزارعين والفلاحين ، ومصالح طبقة التجار الوطنيين ، وتـُراعى فيها حاجة السوق الداخلية والخارجية من المواد الزراعية ، وحاجة الدولة من الموارد النقدية الأجنبية ، وحاجة الدولة من المخزونات الإستراتيجية الاحتياطية ، الزراعية والحيوانية ، دون تفريط أو إفراط باستهلاك المخزونات الاحتياطية .
الأخ المهندس أحمد راتب التيناوي
عضو المكتب السياسي - المكتب الإعلامي
منقول عن موقع حزب الإصلاح الديمقراطي الوحدوي في سورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق