Powered By Blogger

السبت، فبراير 19، 2011

الأنظمة المستبدة هي أولى ضحايا الثورات الشعبية

في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1964 اكتملت في الخرطوم العاصمة السودانية وقائع انتصار أول ثورة شعبية في العالم العربي وأفريقيا وفقاً لتعريف العلوم السياسية لظاهرة ”الثورة الشعبية“، أطاحت بالحكم العسكري للفريق إبراهيم عبود وطغمته التي استولت على السلطة في انقلاب أبيض (تسليم وتسلم من الحاكم المدني السابق رئيس الوزراء إلى قائد الجيش) في العام 1958.
"فاجأت الثورة السودانية الجميع، بما في ذلك قادة القطاع الحديث الذين أشعلوا شرارتها الأولى وقادوها بالفعل، إذ جاءت شهاداتهم جميعاً متواترة أنهم إلى حين سقوط الشهداء واندلاع المظاهرات والحرائق وارتفاع الهتافات والشعارات لم يتصوَّروا أن يتهاوى الحكم العسكري على ذلك النحو السريع ويُسلمُ لهم أمر البلاد

"
إذا جاءت تلك الثورة السودانية لأوائل النصف الثاني من القرن الماضي، في دولة عالمثالثية مهما تكن نامية، فقد تأسَّست فيها الشروط الأدنى للدولة المعاصرة (خدمة مدنية راسخة، جيش قومي، تعليم نظامي، إعلام عابر للأقاليم، جهاز قضائي، مشاريع اقتصادية ثم حكومة مركزية وأخيراً ملامح طبقة وسطى)، كما توفَّر حدٌ مقدَّر من أنماط الحياة الحديثة وخدماتها ووسائل النقل والاتصال والصناعة.
جانبت تلك الثورة وجهاً من وجوه النظرية التقليدية التي تجلَّت في غالب الثورات الأوروبية، أن يثور جزء من النظام على النظام (البرلمان أو عناصر في العائلة المالكة أو حكام الولايات)، لكن الذين قاموا بالثورة السودانية تلك هم القطاع الحديث الذي هو بوجه من الوجوه بعض منتوج الدولة الحديثة: طلاب جامعة الخرطوم، المؤسسة التعليمية الأرقى في البلاد التي أسَّسها المستعمر البريطاني في عام 1904، أساتذة الجامعة وعمداء كلياتها ثم الهيئة القضائية، وأخيراً اكتمل انتصار الثورة بانضمام كل القطاع الحديث – عمال، أطباء، مهندسون، موظفون، رجال أعمال – إلى موقف العصيان المدني الشامل.
أما قيادة الجيش التي ثار الشعب عليها فهي تمثل كذلك جزء من النخبة الحديثة، رأت التظاهُرات تملأ شوارع العاصمة وتمتد إلى الريف فسلَّمت بعد بضعة أيام حكم البلاد إلى سلطة انتقالية كوَّنتها الهيئات النقابية التي شلَّت البلاد بالإضراب العام ريثما تُكمِل المهمة بانتخابات عامة.
لكن المؤسسة السياسية الأهم في أطر الدولة الحديثة التي تنخرط في السياسة مباشرة، أي الأحزاب السياسية، فرغم أنها تأسَّست في السودان قبل نحو عقدين من فجر الثورة الأكتوبرية فلم يكن دورها كبيراً أو حاسماً في أحداث الثورة أو قيادتها، فقد حظرها الحكم العسكري لأول مجيئه، ثم هي قامت على أرضية طائفية دينية في الشمال، أو قبلية أفريقية في الجنوب تعبِّر عن مجتمع غير سياسي في ذات معاني السياق الحديث، فاجأتها الثورة كما فاجأت الجميع، بما في ذلك قادة القطاع الحديث الذين أشعلوا شرارتها الأولى وقادوها بالفعل، إذ جاءت شهاداتهم جميعاً متواترة أنهم إلى حين سقوط الشهداء واندلاع المظاهرات والحرائق وارتفاع الهتافات والشعارات لم يتصوَّروا أن يتهاوى الحكم العسكري على ذلك النحو السريع ويُسلمُ لهم أمر البلاد.
وإن كان لابد لكل ثورة من عقيدة أو نظرية أو كلمة، فقد جاءت الثورة السودانية في منتصف القرن الماضي ساذجة الشعارات تصوِّب نحو رموز النظام وقادته بلغة دارجة بسيطة، سوى نخبة يسارية موصولة بالوعي العالمي الاشتراكي جعلت الهجوم على البنك الدولي، مثلاً، جزءً من خطاب حملتها ضد نظام الفريق إبراهيم عبود. لكن كانت في السودان ملامح طبقة وُسطى جعلت الثورة الشعبية ممكنة بأسباب من غفلة العسكر الحاكمين عن ضرورة إشباع الفراغ السياسي، إذ لم تكن المطالب الاقتصادية حادة ولم يكن عامة أهل السودان يستشعرون أهم مأزومون بظروف البطالة أو مجانية التعليم والعلاج أو صحة البيئة، فلم يكن الوعي الاقتصادي قد اشتد كما هو الحال اليوم، بل كانت بيئة بسيطة تأكل مما تزرع ولا تكاد ترى فوارق طبقية في ظاهر صفحة الحياة أو في موائد الأغنياء إذا نُسبت إلى موائد الفقراء، يأكلون جميعاً ذات الطعام الزهيد. والحق أن جنرالات انقلاب 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1958 في السودان قد صوَّبوا نحو مشروعات للتنمية بدت معقولة ضمن الظرف التاريخي السياسي، ولكنهم عطَّلوا الفعل السياسي بالتمام، وكبتوا الحريات بغير عسفٍ عنيف سوى اعتقالات لبعض قادة الأحزاب قبل أعوام من تداعي أحداث ثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1964 وسقوط الشهداء ثم سقوط بأسرع مما توقع الجميع.
"توالت أحداث الثورة الإيرانية وإيقاعها بأسرع مما توقع العالم، فقد استعادت جماهير الشعب الإيراني كل تراث الفداء والغضب الشيعي من التاريخ ليغدو حياً تنضح به الشوارع التي امتلأت عن آخرها، تمده أزمات الاقتصاد والمعاش والفوارق الطبقية الفاحشة ومنهج الشاه الاستبدادي الاستفزازي في الحكم، وصور احتفالاته الباذخة بعرش ألف ليلة وليلة قبل عام من الثورة

"
بين الثورة السودانية الأولى في أكتوبر/ تشرين الأول 1964 والثورة السودانية الثانية في أبريل/نيسان 1985 كانت الثورة الإيرانية الإسلامية في العام 1979 نمطاً جديداً باهراً في العالم الإسلامي، فقد تقدَّم العالم شيئاً في وسائل الاتصال وظهرت منذ منتصف العقد التسعين تقريرات الأمم المتحدة ومنظماتها تصف العصر بأنه ”عالم واحد يستمع إلى أصوات عديدة“، فقد ظهر جلياً أن الفضاء سيغدو عمَّا قريب محدوداً إزاء نمو قنوات الاتصال لا سيما التلفزة نحو كثافة وشيكة. لم تستعمل تلك الوسائل لمدى طاقتها القصوى لكنها حملت إلى أحياء طهران الفقيرة وإلى المدن الإيرانية الأخرى صوت الإمام الخُميني معبأ في أشرطة الكاسيت ومبثوثاً من أجهزة التسجيل على شُرُفات المنازل وسقوفها، فقد ظهر مع إرهاصات الثورة مركز للقيادة الدينية الملهمة، حمل الطمأنينة إلى الجماهير المنتفضة أنها موصولة ببؤرة الضوء التي ستقودها إلى المستقبل مهما تكن نُذُر التضحيات جسيمة في وجه نظام الشاه المستبد بقوَّته، ومهما تكن تلك القيادة بعيدة في فرنسا ولكنها قريبة بما أتاح العصر من اتصال وإن لم يبلغ حال القرية الواحدة كما هو اليوم، وبتنظيم فني يواكب حالة الثورة وتطورها وإن لم يكن ناجزاً إذ لم يُتح تسارع الأحداث من فئة مستنيرة حول الإمام في الضاحية الباريسية، تمام إحكام تنظيم الثورة.
والغريب أن الكاتب البريطاني المختص في شئون الشرق الأوسط ”ألفريد هوليداي“ أصدر قبل بضعة أشهر من اندلاع الثورة وانتصارها السريع كتاباً بعنوان: ”النفط والثورة في إيران“ يتنبأ فيه بهبَّة الشعب الإيراني ويلتمس أسباب الثورة في الاقتصاد والفقر ووعي العصر وفي التاريخ الشيعي، لكنه لم يكن يتوقع أن تأتي الثورة إسلامية خالصة بقيادة شيخ طاعنٍ في السن، وأن يكون مفكر الثورة وملهم شعاراتها هو الدكتور علي شريعتي المفكر الإسلامي وليس أياً من رموز الماركسية أو الليبرالية الإيرانية، وأن تغدو كلماته شعارات الثورة الملهمة ”الشهيد روح التاريخ“.
إذن توالت أحداث الثورة الإيرانية وإيقاعها بأسرع مما توقع العالم، فقد استعادت جماهير الشعب الإيراني كل تراث الفداء والغضب الشيعي من التاريخ ليغدو حياً تنضح به الشوارع التي امتلأت عن آخرها، تمده أزمات الاقتصاد والمعاش والفوارق الطبقية الفاحشة ومنهج الشاه الاستبدادي الاستفزازي في الحكم، وصور احتفالاته الباذخة بعرش ألف ليلة وليلة قبل عام من الثورة، ثم تراث قريب من ثورات 1905 وثورة مصدَّق والكاشاني لمنتصف العقد الخمسين. أما النُخبة وفئاتها فقد تجاوبت مع الثورة، ولكن المد الشعبي استوعبها كقطرة في محيطه، وعندما انهارت طواقم دبابات الجيش وهربت أمام صفوف الشهداء التي واجهتهم بصدورها صفاً بعد صف، كانت طائرة الشاه تبحث عن ملجأ تضيق عليها الأرض بما رحبت، وكان الخميني يواصل غفوته المطمئنة على أرضية طائرة الخطوط الجوية الفرنسية ريثما تهبط في مطار طهران ويشهد العالم كله في عصر التلفزيون الشيخ الثمانيني ملهم الملايين التي أحاطت بمقدمه الميمون.
"استنكف الجيش السوداني عن أن يوجِّه الرصاص إلى المتظاهرين تصاعد سُخطُ الرتب الوسيطة والصُغرى في القوات المسلحة ليبلغ الكبرى وليضعوا جميعاً نهاية لحكم الديكتاتور الذي استمرَّ لستة عشر عاماً

"
في العام 1985 كان السودان على موعد مع الانتفاضة الشعبية الثانية في تاريخه ضد نظام المشير جعفر النميري الذي استلم السلطة في 25 مايو/ أيار 1969 بانقلاب دبَّرته المخابرات المصرية على عهد الزعيم جمال عبدالناصر، إذ خشيت من عدوى بلدٍ إلى جوارها تمارس التعددية الحزبية وحرية التعبير والتنظيم، وتنمو فيه حركة إسلامية تحمل ذات الاسم الذي صوَّب عليه النظام الناصري همه الأكبر وعنفه الأشد (الإخوان المسلمون)، كما يتبادل الحكم فيه حزبان، أولهما على موجدة تاريخية مع مصر منذ القرن الماضي (حزب الأمة وكيان الأنصار اللذان يمثلان ميراث الثورة المهدية الجهادية التي أسقطت استعمار محمد علي باشا والي مصر التركي في القرن التاسع عشر)، والحزب الثاني كان موالياً لمصر داعياً لكيانٍ يوحِّد السودان إليها، ولكنه تطوَّر استقلالياً ليبرالياً عندما أصبح مدُّ الاستقلال في السودان قوياً لا يقاوم. لكن جاء ضُبَّاط الحُكمُ العسكري الثاني في السودان بعضاً من تيَّار الاشتراكية والفكر القومي الذي كان كاسحاً في العالم العربي حتى بعد الهزيمة المنكرة لذلك التوجُّه عشية النكبة في يونيو/ حزيران 1967، ولكنه ظلَّ فاشياً في نخبة العصر واستحوذ بالطبع طليعة مهمة من الضُباَّط السودانيين.
تقلَّب نظام جعفر النميري في عمره الممتد لعقدٍ ونصف من اشتراكي ثوري موالٍ للمعسكر الشرقي الذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي ضمن معادلة الحرب الباردة إلى حكم شمولي لحزب واحد (الاتحاد الاشتراكي السوداني) لكنه منسلكٌ في المحور الغربي موالٍ للولايات المتحدة الأمريكية، ثم مع تصاعُد مد التيار الإسلامي في السودان، تحوَّل النميري إلى اعتماد الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً للقوانين محرِّماً الخمور والرِّبا، مطبقاً عقوبات الحدود، وإن لم يَرْعَ الشريعة في العدل الاجتماعي والمشيئة الحرة في التنظيم والتعبير واستقلال القضاء.
بدأت شرارة انتفاضة أبريل/نيسان 1985 في السودان بإضراب مطلبي ضمن ما عُرف بأزمة القضاة، وإذ حسَّن النظام شروط خدمتهم بدأ الأطباء إضراباً آخر رفع سقف المطالب عالياً بعد تصدِّي جهاز الأمن بقسوة لخطوتهم: أنهم مستمرون في الإضراب حتى يسقط حكم الفرد. فانحازت بقية النقابات المهنية (المهندسون، المحامون، العمَّال، اتحادات الطلاَّب والأساتذة)، انحازت كلها للإضراب الذي أصبح عصياناً مدنياً شاملاً، تعضِّده التظاهُرات التي تدفَّقت في شوارع الخرطوم، وإذ استنكف الجيش أن يوجِّه الرصاص إلى المتظاهرين تصاعد سُخطُ الرتب الوسيطة والصُغرى في القوات المسلحة ليبلغ الكبرى وليضعوا جميعاً نهاية لحكم الديكتاتور الذي استمرَّ لستة عشر عاماً.
وكما تبدأ الثورات كافة عفوية بغير تدبير كبير أو رجاء عريض في شمول الثورة وسقوط النظام الحاكم، بدأت انتفاضة أبريل/ نيسان 1985 في السودان بتنظيم ضمَّ النقابات وأحزاب المعارضة (التجمع الحزبي والنقابي)، لكن الجوار الإقليمي للسودان كله كان معادياً لاندفاع رئيس النظام لتطبيق الحدود الإسلامية، يناصره الموقف الدولي، خاصة من وَليَّة النظام الأساسية (الولايات المتحدة الأمريكية)، وإذ زجَّ النظام بآخر حلفائه في الساحة السياسية قادة الحركة الإسلامية في السجون ممَّن كانوا بعض وزرائه تعرَّى شاخصاً بغير سندٍ، ومع بزوغ فجر الإضرابات تكوَّن التنظيم الوحيد للثورة قبل ساعات من انتصارها، وإذ ظلَّ الإعلام مقموعاً طيلة العهد الشمولي الممتد إلا من تعبير الحزب الواحد، وجد الشعب السوداني في إذاعة لندن (هيئة الإذاعة البريطانية – القسم العربي) تعبيراً لا يُضاهى، أبلغ صوت الثورة لأطراف البلاد كلها وحوَّل أنظارها للخرطوم التي إذا تغيَّر مركز السلطة فيها تغيَّر في السودان كافة.
"لم يكن الجدار الحديدي الذي أحاطت به الأنظمة الاشتراكية دول أوروبا الشرقية أو سور برلين ليمنع كل إشعاعٍ للحرية والديمقراطية وكسبهما المادي والفكري عن الأوروبي الشرقي في المحور الآخر وراء الطوق، بل ظلَّ المنشقون يوالون الخروج إلى العالم الحُر ويساهمون بإبداعهم وأفكارهم

"
في أخريات العام 1989 وأوائل العام 1990، كان العالم على موعدٍ مع التاريخ، وكانت أوروبا الشرقية تدقُ أبواب الثورة بعد قرون من خمودها الأتم في تلك القارة، وبعد عقود من استقرار العالم كله وفق النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية. كان الزعيم الشيوعي للاتحاد السوفيتي العظيم ”يوري غورباتشوف“ قد بدأ عهد المراجعة والشفافية الشاملة الـ”بيريسترويكا“ لنظام ثورة 1917 في روسيا وفلسفتها الماركسية اللينينية، تحضُّه وقائع أزمة اقتصادية محيطة وتحفِّزه ثقافته ووعيه بالعالم للتمرُّد على العوائق الفكرية والتنظيمية وعلى البيروقراطية الجامدة التي كبَّلت بلاده الكبيرة لنصف قرنٍ، وخلَّفتها بائسة وراء جوارها القريب في أوروبا الغربية الناهضة لمشارف ثورتها الصناعية الثانية، تغزو الفضاء وتطوِّر أبحاثها في الجينات ويعبر أسطولها الجوي القارات وتفجِّر شرائح السيليكون لتحيل العالم كله لقرية الاتصالات الوثيقة الكثيفة.
أما الكسب الفكري لأوروبا الغربية وتجليها الأعظم في الساحل الأطلنطي المقابل (الولايات الأمريكية)، فقد تبلور في نهاية العقد الأخير من الألفية الثانية إنجازات تضارع الإنجاز المادي، بل هي التي تمده بالإلهام الذي ضمن توالي تجدُّده وتطوُّره أمام المشكلات والأزمات، يكاد كله يتلخَّص في كلمة ”الحرية والتحرُّر“. فمنذُ ثورة 1968 في فرنسا التي أحدثت تحوُّلاً عميقاً في المسار الروحي والفكري الفرنسي، والذي امتدَّ بإشعاعه من المناهج الأكاديمية البحتة والبحث العلمي إلى الفلسفة والجمال وأطر الفنِّ والأدب وسائر توجُّهات المجتمع من الفرد إلى الأسرة إلى التنظيمات والجماعة الوطنية، لكنه اندلع لأوَّل الأمر ينشُدُ حرية أوسع وأعمق للإنسان ممَّا حملت كلمات الثورة الفرنسية الأولى (حرية، إخاء، مساواة) قبل قرنٍ ونصف.
ومهما تكن أوروبا الغربية قوية حرَّة ذات الطاقة لا تنضب عن التجديد، لم يكن الجدار الحديدي الذي أحاطت به الأنظمة الاشتراكية دول أوروبا الشرقية أو سور برلين ليمنع كل إشعاعٍ للحرية والديمقراطية وكسبهما المادي والفكري عن الأوروبي الشرقي في المحور الآخر وراء الطوق، بل ظلَّ المنشقون يوالون الخروج إلى العالم الحُر ويساهمون بإبداعهم وأفكارهم، ولم يكن الاتحاد السوفيتي نفسه ليستطيع أن يحيا بمعزل عن التفاعُل مع العالم، وإذ أحاطت به الأزمات وبدت الاشتراكية المستبدة كأنها استنفذت كل طاقتها عندما دقت ساعة الحقيقة في شتاء 1989، لتخرج الجماهير المكبوتة إلى الشوارع ولتنهار أنظمة ”الستار الحديدي“ وتنتهي الحرب الباردة ويتطلع العالم كله لعهدٍ جديد في تاريخ الإنسانية، لم يكن يتوقعه الساسة الكبار ولا المفكرون الاستراتيجيون في أوروبا وأمريكا، فتحدَّثوا لأول مرة عن عنصرٍ غيبي في التاريخ يستعصي على التنبؤ وفق مناهج التحليل الاستراتيجي.
لقد فتح انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية باباً واسعاً للتأمُّل وأشرع منافذ كثيفة للحوار، خاصة في العالم العربي، وانبثقت الأسئلة المشروعة: فقد بدأ عهد النهضة العربي منذ قرنٍ تقريباً، إذ حمل نابليون المطبعة إلى مصر وانتبه محمد علي باشا من بعد لضرورة التحديث فتوالت البعثات المصرية إلى فرنسا، والتأم أول برلمانٍ منذ قرنٍ وتكوَّن جيش حديث منظم. ثم حمل جمال الدين الأفغاني أنفاس الإحياء الإسلامي يما عبَّر عنه المفكر الإسلامي الجزائري ”مالك بن نبي“ ببعث الدور الاجتماعي للأنبياء لأوَّل مرَّة بعد قرون الجمود، ليواصل العمل الإمام محمد عبده مؤسِّساً للإسلام المستنير وتحرير المرأة والحُكم الدستوري. كما غشيت فيوض الفكر الاشتراكي القومي العالم العربي ورُفعت شعارات ”الوحدة والحرية والاشتراكية“، لكن الثورة جاءت من الجوار الإيراني بقيادة إمام شيعي ولم يحقق العالم العربي أي من نداءاته الكبيرة، إذ تمكن الاستبداد يخنق الحرية، وجُرِّبت الوحدة العربية على كل مستوىً ولم تنجح، وما تزال الاشتراكية حلماً بعيد المنال، إذ تُحكمُ التبعية للغرب حلقاتها الخانقة.
أما ومضة الأمل التي لمعت للحظة بعد انتصار أكتوبر/ تشرين الأول 1973، لم تلبث أن خمدت بمشروع الصُلح المصري المنفرد مع إسرائيل، الذي انقسم حوله العالم العربي وأعاد إلى الشعوب والنُخب العربية غيوم اليأس والإحباط التي خيَّمت بعد النكبة في 1967.
كذلك الأطروحة الأخرى الإسلامية التي بدأت بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928 بوصفها أوَّل محاولة لتنظيم أفكار ومشاعر الإحياء الإسلامي، وقد انتهت بالاضطهاد المستمر الذي أعمل آلة الدولة الحديثة القاهرة المرعبة، انتهت إلى ما يُشبه الفراغ تمهِّد الطريق إلى فكر اعتزالي جهادي يَسِمُ المجتمع بالكُفر ويُنكرُ كلَّ كسب الحداثة.
ورغم أن العالم العربي قد تنفَّس في مناخٍ صحِّي من الوحدة والاستنصار عشية حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 فاصطفَّت دول البترول مع دول المواجهة لتمنع النفط عن الغرب وتهيِّئ لتأسيس منظمة ”الأوبك“ ثم تتأمَّل إمكاناتها البشرية الممتدَّة في رقعة منبسطة هي قلب العالم، تتحدَّث شعوبها الكبيرة لغة واحدة في ظاهرة فريدة لا مثيل لها في العالم، ولتنبثق من روح أكتوبر فكرة التخطيط الاستراتيجي المتكامل الذي يوحِّد العرب فيقوموا ناهضين بما هيَّأ العصر من ثورة التكنولوجيا ولتبرُزَ أمَّة جديدة تناهض دول النهضة الآسيوية الحديثة التي بلغت أفق العصر الصناعي في سنواتٍ وجيزة لا سيما اليابان، وقد كانت جميعاً أمماً متخلِّفة شحيحة الموارد المادية بما لا يُقاس لحالة أمَّة العرب.
لكن النهضة العربية لا تمضي دون أن تستدعي بقوة لا تقهر أفكار ومشاعر الصراع الحضاري الأزلي، أو الحدث الأخطر في العصر الحديث بتعبير فيلسوف التاريخ ”أرنولد توينبي“: لو تأمَّلنا العصر الحديث فإن أهم أحداثه ليست في حرب عالمية أو اغتيال سياسي أو كارثة طبيعية ولكن هو لقاء الحضارة الغربية المسيحية بالحضارة الإسلامية. وإذ يستدعي الصراع الحضاري آلياته التي وصفها مالك بن نبي في نظريته ”الصراع الفكري في البلدان المستعمرة“، والتي ترصد أي مظاهر للنهضة وتدرسها وتمحِّصها من قبل المراصد الغربية منذ أوَّل الاستعمار والاستشراق، ثم لتفرِّق الظاهرة الصحية من محتواها أو تحرِّف اتجاها أو لتحلَّ الفكرة في الوثن أو لتخدِّر روَّادها بالذكريات التي تبجِّل التاريخ وتغفل عن الحاضر الماثل أو تمرِّغ سمعة أولئك الروَّاد بالتراب وتحطم معنوياتهم بالقهر واليأس. لقد استدعت لحظة اليقظة التي أعقبت انتصار حرب أكتوبر/تشرين الأول كل ذلك، لا سيما إلهامها الأخطر الذي يهدِّد دولة إسرائيل عندما أفصح العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز عن أمنيته الصلاة في المسجد الأقصى.
أما القضية المركزية الأهم في العالم العربي والإسلامي وتجلياتها في المسألة الفلسطينية وثورتها ومنظمتها، فقد واجهت محنتها الثانية في العالم العربي بعد محنة ”أيلول الأسود“ في الأردن، واجهت الحصار الإسرائيلي والخروج من لبنان عام 1982 كأنها منفردة تدافع وحدها عن وجودها، لم يسعفها المد القريب الذي وفَّرته ثورة إيران، إذ أبطلت خطة الصُلح المنفرد مع إسرائيل الذي كان يعوِّل على نفط إيران تعويضاً عن نفط سيناء، قاضية بضربة واحدة على أكبر حليف للصهيونية في المنطقة، أحال السفارة الإسرائيلية إلى مكتبٍ لمنظمة التحرير الفلسطينية واستقبل مرشدها الإمام الخُميني ”رمز الثورة الفلسطينية“ ياسر عرفات فجر الثورة تعبيراً صريحاً عن وضع فلسطين في قمة أجندة الدولة الجديدة.
لكن التجاوب الذي لقيته الثورة الإيرانية في العالم العربي لا سيما لدى النُخب أهل الانتماءات الفكرية السابقة القومية والاشتراكية، أثار خوفاً وغيرة لدى الأنظمة العربية فسرعان ما ساءت العلاقة مع المنظمة الفلسطينية، ثم واجهت الأنظمة العربية أفقاً مغلقاً يزداد انغلاقاً، ورغم التبايُنات الجوهرية بين الأنظمة العربية من الملكية إلى الثورية، ومع تاريخ حافل للصراع والخصومة، فقد طوَّرت آليات الصراع الحضاري العلاقات المتقاطعة في مناخ التتبيع الشامل إلى تحالف يكاد يضم الأنظمة كافة في وجه نظام الثورة الإيرانية، فالتجربة العربية القومية الأولى التي بدأها الرئيس جمال عبدالناصر ومثلت رأس الرمح في القضية الفلسطينية صالحت إسرائيل في عهد الوريث الأول، ابن الثورة أنور السادات، وتكفَّل النظام البعثي العراقي بقيادة الرئيس صدَّام حسين بفتح الأفق عبر الحرب مع النظام الإيراني الثوري أصالة عن نفسه المُحرجة ووكالة عن الأنظمة العربية المرعوبة، قبل أن تكرَّ الأحداث وفق السُنة التاريخية التي ترتد بالفوضى إلى ذات البيت الذي أشعلها في بيوت الآخرين، فانقلب الغرب والعرب في حلفٍ آخر على نظام صدَّام بعد غزو الكويت في 1990، وليستمر سجالٌ مرير لم ينختم حتى في العام 2004 بسقوط النظام البعثي.
"أبدت الجماهير التونسية شجاعة وإقداماً ثم استعداداً للفداء ولو بتقديم الشهداء ثمناً لنجاح التغيير، بما يحمل تأكيداً آخر أن بذرة الثورة باقية وأن جذوتها قد تتقد إذا ارتفع نداء جديد للاحتجاج على سرقة الثورة أو الردَّة عليها

"
بعثت الثورة التونسية المباركة قبل أسابيع الأمل كما بعثت التأمُّلات في سائر الساحة العربية، شعوبها ونُخبها لا سيما الأنظمة الحاكمة والمعارضات المتطلِّعة إلى نزالها وإزالتها بأعجل ما تيسَّر. فالجمهورية التونسية كانت المثال الذي يُشارُ إليه بوصفه واحة الاستقرار في المنطقة، فإذ نجح الرئيس زين العابدين بن علي في وراثة الحقبة البورقيبية المثقلة بالمواجد والتاريخ في سلاسة وبراعة، وواصل السير نحو الهدف الأساس الذي كان ينشُدُه الزعيم السابق: دولة الرفاهية والاعتدال التي تتبنى روح العصر بالكامل، فمضى التعليم ليكون الأفضل في دول المنطقة وتصاعد دخل الفرد ليكون تالياً لدخل الفرد في دول النفط، بعد نجاح منقطع النظير في تجفيف منابع الأصولية مهما برز التيَّار الإسلامي التونسي ديمقراطياً معتدلاً تقدمياً، ثم سياسة خارجية تنسجم مع النظام العالمي الجديد أحسن انسجام.
وإذ أفرزت محاولة الديمقراطية اليتيمة في المنطقة المغاربية عبر صناديق الاقتراع والانتخابات الحرَّة النزيهة في الجزائر نجاحاً سلَّم 75% من مقاعد البرلمان للتيَّار الإسلامي، وُئِدَتْ التجربة من فورها، فمهما دعت الاستراتيجية الدولية للقوى الكبرى إلى إصلاح الشرق الأوسط فإن الديمقراطية، القيمة الرفيعة لدى الغرب، تُنسَخُ إذا هدَّدت المبدأ الأرفع وهو الحضارة.
لكن ذات الكسوب الاقتصادية في تونس التي حافظت على الطبقة الوُسطى وأتاحت لرُبع الشعب أن يجد الوسائل التي تصله بالعصر، خاصة وسائل الاتصال الأسرع الأفعل عبر الشبكة العنكبوتية وفتوحها، ثمَّ حرية العلم والبحث في مناخ يكبت الإعلام ويمنعُ التعبير السياسي والفكري المُعارض، ثمَّ هو يشجِّع الأدب والفن بما يحمل دائماً من روحٍ ناقدة متمرِّدة، كل ذلك تفجَّر عبر الشوارع في ثورة للوعي تنشُدُ الحرية، كما تنشُدُ الخُبز وتبحث عن الكرامة عبر الموقف السياسي الذي يتطلَّع إلى الديمقراطية ويأبى فساد الحُكَّام.
حمل كذلك تدفُّق الجماهير التونسية العفوي إلى الشوارع معنى جديداً في ثورات مطلع الألفية الثالثة، أنها شاملة بغير مركز ناظم، ومستمرَّة بغير قيادة ملهمة كما كان الحال في الثورة الإيرانية مثلاً، أو ثورات المعسكر الشرقي السابق التي قادتها النقابات. فقد أتاح عصر التواصل الحديث الكثيف للجميع أن يضطلع على ما يحدُث للجميع، فسَرَت العدوى إذ سَرَت الصورة، كل مدينة أو قرية أو تجمُّع بميدان ينهض للتظاهُر والاحتجاج يستفزُّ المنطقة الأخرى فتستجيب ناهضة فتغدو الثورة شاملة، تحاول أن تدركها القيادات السياسية والنقابية لتكون جزءً منها، أو تلجأ إلى ذات وسائل ثورة الاتصالات لتستدرك على بعض جوانب النقص السياسي أو الفني وتلهث لتلحق بإيقاع الشعب الواسع السريع.
وإذ أحرزت الثورة هدفاً كبيراً برحيل الرئيس، استمرَّت الجماهير في الشوارع تستشعرُ أن عملها لم يكتمل بتمام رحيل النظام، بينما تؤكد خلافة الرئيس أنها ماضية في إجراءات الإصلاح الجوهري، وليستمرَّ السجال بين الشعب والقيادات السياسية تطالب بزوال النظام ورموزه كافة، تستمسك قيادة النظام القديم تساندها قيادة الجيش أنها تخشى الفراغ والفوضى إذا ألغي الدستور واستلمت سلطة انتقالية من العناصر الجديدة.
ورغم أن الثورات الحديثة كلها تمَّاز بالعدد المحدود أو الضحايا وقلَّة الإصابات البشرية خاصة إذا قورنت بالحروب، فإن الجماهير المعاصرة أبدت شجاعة وإقداماً ثم استعداداً للفداء ولو بتقديم الشهداء ثمناً لنجاح التغيير، بما يحمل تأكيداً آخر أن بذرة الثورة باقية وأن جذوتها قد تتقد إذا ارتفع نداء جديد للاحتجاج على سرقة الثورة أو الردَّة عليها.
خلاصة:
• لقد كان شعار حركات المقاومة الوطنية ضدَّ الاستعمار في غالب ساحات المواجهة التي شهدها القرن الماضي أنَّ ”التحرير أولاً“، أو ”التحرير قبل التعمير“، وإذ اكتمل الاستقلال من الأجنبين في بعض بلدان العلم العربي وفي أفريقيا وآسيا سريعاً وتعثَّر بطيئاً في أخرى، انتصبت في الواقع الجديد تحديات كبير أمام العناصر الوطنية التي أسلمت لها البلاد. ومع غياب الرؤية الملهمة والأفكار والبرامج أو قصورها، دخلت بلاد العالم الثالث كافة في أحوال الاضطراب واستمرار التبعية للأجنبي رغم الحماسة السابقة في الاستقلال عنه، ولتحُلَّ الديكتاتورية في حكم البلاد وتنهض ضدَّها المعارضات السلمية والمسلحة كأنها حركات تحرير أخرى من الوطني المستبد أو العميل.
• على الصعيد الفكري، كانت الوطنية أو القومية عقيدة ألهمت الآلاف في النخبة وأحزابها بل ألهمت الملايين في الجماهير، ولكن مع تعثُّر تجارب الحكم الوطني وتوالي الحروب والهزائم والانقلابات العسكرية استنفذت الوطنية أغراضها لتحُلَّ محلها المذاهب الاشتراكية ومدارسها المعتدلة والمتطرِّفة، لكنها واجهت ذات المحنة وانتهت إلى فراغ.
• أشار كثير من المحلِّلين والمفكرين السياسيين إلى أن الصحوة الإسلامية التي تصاعدت منذ أوَّل العقد الثمانين لتبلغ ذروتها في الثورة الإيرانية ثم الانقلاب الإسلامي في السودان نهاية العقد، ملأت الفراغ الذي انتهى إليه كساد الفكر الوطني وتجربته، ثم فشل الاشتراكيات في الفكر القومي في تحقيق شعاراته الكبيرة، فجاءت العودة للإسلام بمثابة بحثٍ عن الإنقاذ في الهوية الحضارية، ولكن التجارب الإسلامية تعرَّضت لذات المعضلة التي نجمت عن غياب الرؤى والبرامج وإلهام الجماهير بوعيٍ بديل، فتجسَّدت أزمة ماثلة اليوم تعبِّر عن انسداد الأفق السياسي في إيران والسودان، إذ يتصارع فريقان من ذات التوجُّه على الحرية والاستبداد وعلى بسط السلطة أو قبضها مركزية جامدة.
• تطاوُل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والعُنف البالغ الذي يعاني منه الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطع غزَّة وحتى خلف الخط الأخضر، ثم فشل عملية السلام منذ أوسلو وما نَجَمَ عن حربي الخليج الأولى والثانية من خيبة ويأس ثم حادثة سبتمبر/ أيلول 2001 في أمريكا، كل ذلك فتح الطريق لرواج تيَّار جديد في مسار حركة الإسلام ينحاز إلى الجهاد المحض الذي جسَّد ظاهرة جديدة في السياسة الدولية (الإرهاب العالمي)، الذي يُنسب كله للإسلام رغم أنه يُجافي غالب رؤية وسيرة المُصلحين الإسلاميين الكبار في الماضي القريب واليوم. قد يُحصر كله في ”القاعدة“ ليوضِّح الزمن أنها ليست تنظيماً محصوراً ولكن تيَّار يهرع إليه آلاف الشباب في العالم الإسلامي الذي آيسوا من الإصلاح والثورة نحو رفضٍ شامل، يتوق إلى إبطال ما يراه باطلاً بالقوة المحضة التي لا تميِّز ولكنه بعيد عن إحقاق ما يراه حقاً في أفكار وبرامج تواجه مشكلات الحياة الحديثة وتجيب حيرة المسلم المعاصر.
• لكن إذ أصبح العالم كله وثيقاً قريباً بعضه إلى بعض، فإن الوطن العربي والعالم الإسلامي يظل منطقة واحدة إذا اشتكى منها عضوٌ تداعى له سائر الجسد متجاوباً، فإذ بدأت ثورة الجماهير فالأغلب أنها ستنداح وتنتشر وتصبح نمطاً سارياً في كثير من دول المنطقة، تنشُدُ الحرية والديمقراطية. لكن الديمقراطية وعيٌ يُكتسب عبر عملية شاقة في تعليم المجتمع كافة، فمهما تكن الثورة ناجحة ناجزة فإن الشعب الثائر سيُختبر وشيكاً بعد الثورة كيف يصنع بالحرية التي نالها بثمنٍ غالٍ. فقد توالت في الدول العربية ودول المنطقة أنماط من تجارب التعدُّدية الحزبية التي أعقبت الثورات، لم تلبث أن تشققت بالخلافات والفراغ الذي استدعى تدخُّل الجهة الأكثر قوة وتنظيماً في المجتمع وليبدأ حُكمُ ”الجيش“. ولئن كان سكان المنطقة التي شهدت سابقاً حركات التحرير ومحاولات الوحدة والتكامل منذ مؤتمر باندونج 1962 وتأسيس منظمة دول عدم الانحياز، فإن غالب السكان هم من الفئة الشابة في العُمر وعليهم يقع عبء حمل بلاد كبيرة نحو المستقبل كما وقع عليهم عبء الثورة والتغيير من قريب.
 مركز الجزيرة للدراسات

هل الظروف الدولية والإقليمية مواتية لنجاح الثورات

أخذ يشيع في الآونة الأخيرة حديث كثير عن نظام عالمي متعدّد القطبية بعد أن سكت الحديث السابق عالي النبرة عن نظام عالمي أحادي القطبية تنفرد أميركا بالسيطرة عليه.
"من يدقق في مقولة نظام عالمي متعدّد القطبية لا يجدها متحققة فعلاً وذلك بالرغم من ظاهرة بروز عدّة أقطاب دولية.
"
ولكن من يدقق في مقولة نظام عالمي متعدّد القطبية لا يجدها متحققة فعلاً وذلك بالرغم من ظاهرة بروز عدّة أقطاب دولية. وهي أميركا وأوروبا وروسيا والصين واليابان والهند (الأخيرتان قطبان اقتصاديان كبيران)، إلى جانب عدد من الأقطاب الإقليمية الصاعدة اقتصاديا مثل البرازيل وتركيا وإيران وإندونيسيا وماليزيا وجنوبي أفريقيا، كما أخذت تبرز إلى جانب هؤلاء وأولئك دول إقليمية متسّعة النفوذ السياسي الممانع لأميركا مثل فنزويلا وبوليفيا وسورية وإيران وعدد من المقاومات والممانعات والانتفاضات الشعبية وأهمها تونس ومصر، وخصوصاً مصر.
من جهة ليس ثمة نظام عالمي تحددّت فيه أدوار الأقطاب الدولية أو انتظام علاقاتها ببعضها. ولهذا يمكن القول أن ثمة عالماً متعدّد الأقطاب ولكن ليس نظاماً عالمياً متعدّد القطبية. لهذا هو أقرب إلى اللانظام تتخلله فراغات كثيرة، وتنتظر دوله الكبرى أن تتفاهم أو تتفق فيما بينها على كل حدث على حدة بعد شدّ وجذب وصولاً إلى مساومات وصفقات تظل في حدود ذلك الحدث المعني. وهذا ما تعكسه المواقف من إيران مثلاً، أو أي قرار يُطرح في مجلس الأمن الدولي.
أما الظاهرة الأخرى الجديدة والمرتبطة بحالة اللانظام العالمي متعدّد القطبية فهي عدم انقسام الدول الكبرى إلى محاور متصارعة كما ساد الأوضاع العالمية خلال قرن ونصف في السابق. ففي التقليد العالمي السابق كان النظام العالمي يتحدّد بالدرجة الأولى من خلال صراع حاد ومحوري بين قطبين كبيرين أو أكثر. ويرجع السبب في هذه الظاهرة الجديدة إلى ترتيب الولايات المتحدة أولويتها الإستراتيجية على إعادة بناء الشرق الأوسط الكبير وليس مواجهة دولة كبرى أخرى أو منعها من الوصول إلى موقع الأولوية. وهذا بدوره بحاجة إلى تأويل وتفسير لأنه يخالف ترتيب المتناقضات التي تواجه أميركا من حيث أهميتها.
وفي المقابل، اتسّمت الدول الكبرى جميعاً بالانكباب الشديد على بناء قدراتها العسكرية والاقتصادية والمحافظة على أمنها القومي الإقليمي كما هو الحال بالنسبة إلى روسيا والصين والهند. أما أوروبا واليابان فتسعيان إلى ترميم أوضاعهما ولاسيما في المجال الاقتصادي وتعزيزهما في معادلة العلاقات الدولية الجديدة مع نمو الأقطاب الآسيوية والإقليمية وعودة روسيا دولة كبرى من جديد. الأمر الذي أسهم من جهته في تعزيز الظاهرتين العالميتين المذكورتين آنفا.
ويجب أن يُذكر هنا أن كل من الصين وروسيا والهند، كدول كبرى منافسة، أخذت تستغل انشغال أميركا عنها بالصراعات التي فتحتها في أفغانستان وباكستان والعراق وفلسطين ولبنان وإيران. ولهذا راحت تلك الدول تتجنب تبني استراتيجيات عالمية قد تستفز أميركا فتدفعها إلى إعادة أولوية إستراتيجيتها في مواجهة الدول الكبرى العالمية المنافسة أو بالتركيز على إحداها بصورة أساسية. فهذا الوضع يساعد هذه الدول على تطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية وحماية أمنها القومي-الإقليمي، ولو على الأقل من دون توتر ومواجهة، كما يجعلها تكسب الوقت لأطول مدّة ممكنة.
"تعاظم النفوذ الصهيوني داخل مراكز القرار الأميركي، ولاسيما في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، عليها الكثير من الدلائل والشواهد والوقائع.
"
ومن هنا اتسّمت العلاقات الدولية في ما بين الدول الكبرى بنوع من الهدنة المؤقتة إلى حين عودت التناقضات في ما بينها إلى الانفجار، لأن المنافسة على الهيمنة العالمية العسكرية والاقتصادية والسياسية هي في ما بين الدول الكبرى. فعلى سبيل المثال، المنافس العسكري الحقيقي للولايات المتحدة هو روسيا وليس العراق، والمنافس الاقتصادي-العسكري-التكنولوجي الحقيقي هو الصين وليس إيران أو أفغانستان أو "الإرهاب".
والخلاصة، إن هذه الهدنة بين الدول الكبرى نتاج تركيز أميركا على تناقضات ثانوية بالقياس مع تناقضاتها مع الدول الكبرى المنافسة. وهي معادلة تفرض على أميركا مهادنة الدول الكبرى بل ومساومتها مقابل سكوتها أو تأييد موقفها من إيران مثلاً.
وفي المقابل، ليس هنالك من فرصة ذهبية بالنسبة إلى روسيا والصين أكثر من انشغال أميركا عنهما أو من عدم جعلهما في أولوية صراعها الإستراتيجي. وهذا يفسّر ما تتبنيانه من إستراتيجية وضعت أولويتها على تطوير الداخل والحفاظ على الأمن الإقليمي في فناء الدار، وأما ما عدا ذلك عالمياً فلا إستراتيجية محدّدة، وإنما سياسات براغماتية تتعامل مع كل قضيّة وكل تطوّر على حدة وتخضعه للمساومة مع أميركا.
من هنا اتسّمت إستراتيجية كل من الدول الكبرى بما يلي:
أولاً: أميركا جعلت أولوية إستراتيجيتها إعادة تشكيل ما تسمّيه الشرق الأوسط، ولا تفسير لذلك غير تحكّم النفوذ الصهيوني وتحالفاته الداخلية في القرار الأميركي من حيث تحديد أولوية الإستراتيجية والسياسات. وذلك من أجل خدمة المشروع الصهيوني في فلسطين وتأمينه من خلال تمزيق الدول العربية والإسلامية القائمة وتحويلها إلى دويلات إثنية وعرقية ودينية ومذهبية وطائفية وحتى جهوية. وبهذا يتشكل شرق أوسط كبير من دويلات فسيفسائية متعادية تشلّ بعضها بعضاً، وتصبح تحت الهيمنة الأميركية-الصهيونية، وتكون دولة الكيان الصهيوني الأقوى والعرّاب المهيمن على منطقة ممزقة غير مرشحة لوحدة ونهوض.
هذه الحقيقة: تعاظم النفوذ الصهيوني داخل مراكز القرار الأميركي، ولاسيما في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، عليها الكثير من الدلائل والشواهد والوقائع.
إن انهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، وما بدا في تسعينيات القرن الماضي من ظواهر انحلال لروسيا في عهد يلتسين، وما راح يتوقعه الكثيرون بأن الصين مقبلة على تفسّخ مماثل، وما ساد من أوهام حول النظام العالمي أحادي القطبية أو الإمبراطورية الأميركية، ساعد على تمرير ذلك التغيير في أولويات الإستراتيجية الأميركية بإسقاط أولوية مواجهة الدول الكبرى مثلاً من خلال احتوائها وإضعافها وعدم السماح لها باستعادة القوّة أو النموّ الاقتصادي وتطوير قدراتها العسكرية، وأساساً، كما في الحال مع روسيا والصين.
صحيح أن الدول الكبرى تعمل على عدّة جبهات. ولكن المشكل هو في تحديد الأولوية ومن ثم إخضاع العمل على الجبهات الأخرى لها. فأميركا حين جعلت أولويتها في الشرق الأوسط أخضعت العمل على الجبهات الأخرى لها. وإلاّ كيف يعقل أن يُترك بوتين في عهديْه ليمضي بتصميم وحزم على إعادة بناء الدولة الروسية، وتصفية مراكز القوى التابعة لأميركا والصهيونية التي كانت سائدة في عهد يلتسين؟ وكيف يعقل أن تُترك الصين لتغزو أسواق العالم وتسابق الريح في تطوير قدراتها الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية كما العسكرية. ومن ثم يُصار في واشنطن إلى إعطاء الأولوية للعراق وفلسطين وسورية وإيران ولبنان كما في أفغانستان وباكستان.
في ذلك الوقت سوّغ المحافظون الجدد إعطاء الأولوية لإعادة بناء الشرق الأوسط تحت حجّة مخادعة وهي السيطرة على البترول (لاسيما غزو العراق). ليكون الطريق للسيطرة على العالم. ولكن بعد أن تمت السيطرة على العراق مضوا إلى تمزيقه وتدميره وليس الإمساك بدولته للسيطرة عليه وعلى بتروله. فحُلّ الجيش والدولة وإعادة العراق ليُبنى على أسس مذهبية وإثنية لا علاقة لها بالسيطرة على النفط وإنما بتقسيم العراق وتجزئته إلى دويلات متعادية متصارعة.
ونتيجة هذه الأولويات راح الخط البياني الأميركي يتجّه نحو الانحدار والضعف. وقد جاء انفجار الأزمة المالية ليعزز هذا الاتجاه الانحداري كما عززته سلسلة الإخفاقات العسكرية والسياسية في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان وباكستان، كما عززه تعاظم قوّة الدول والقوى الممانعة لأميركا وخصوصاً إيران وسورية وفنزويلا وبوليفيا والمقاومات في لبنان وفلسطين وأفغانستان والعراق.
كما أن الضعف العالمي الأميركي وبروز أقطاب دولية أديّا إلى نشوء معادلات دولية وإقليمية أفسحت المجال واسعاً لبروز أقطاب إقليمية مثل تركيا والبرازيل وجنوبي أفريقيا وماليزيا واندونيسيا.
"الوضع الدولي الراهن دخل في حالة انتقالية تتسّم بحدوث فراغات واختلالات في موازين القوى عالمية وإقليمية.
"
صحيح أن كل تغيير داخلي أو تحوّل من وضع إلى آخر يحتاج إلى توفر الشرط الداخلي له ولكن هذا الشرط الداخلي لا يستطيع أن ينتقل من حالة الكمون إلى الفعل الناجح ما لم تتوفر له شروط إقليمية وموازين قوى دولية وإقليمية مواتية. والمواتاة هنا لا تعني التعاون مع قوّة دولية تدعمه وإنما في الغالب تتشكل المواتاة، لاسيما إذا كان التغيير شعبياً أو بالنسبة إلى دولة إقليمية ناهضة، من خلال اضطراب دولي نتيجة حدوث فراغ في موازين القوى أو حالة اختلال ناجمة عن مرحلة انتقالية تواجه تغييراً في داخلها. مثلاً ما حدث في خمسينيات القرن الماضي عندما راح النفوذ العالمي البريطاني والفرنسي يتراجع وأخذ النفوذ الأميركي يحلّ مكانهما، وصعد الإتحاد السوفيتي ليحتلّ موقع القطب الثاني المقابل للقطب الأميركي. هنا حدثت مرحلة انتقالية اتسّمت بحدوث فراغات وفجوات في ميزان القوى العالمي والإقليمي، سمحت لحركات التحرير بإحداث اختراق والتحول إلى منظمة دول عدم الانحياز، وسمحت لحركة التحرّر أن تحقق الانتصار على العدوان الثلاثي كما إنجاز وحدة مصر وسورية وإسقاط حلف بغداد.
الوضع الدولي الراهن دخل في حالة انتقالية تتسّم بحدوث فراغات واختلالات في موازين القوى عالمية وإقليمية مما يمكن أن يفسّر توفر الشرط الخارجي المواتي لنهوض إيران وتركيا والبرازيل مثلاً أو اتسّاع نفوذ دول ممانعة مثل فنزويلا وسورية، بل حتى نجاح الثورة الشعبية في تونس ومصر. وذلك فضلاً عن نجاحات المقاومة في لبنان 2006 وفلسطين 2008/2009 وفي العراق 2003-2007، وفي أفغانستان في هذه المرحلة.
في السابق بعد الحرب العالمية الثانية، كانت مرحلة حدوث الفراغات والاختلالات في ميزان القوى قد حدثت في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، ثم تمكنت أميركا مع الحلول مكان بريطانيا وفرنسا ونشوء توافق أوتنازع بينها وبين الإتحاد السوفيتي أن تعود لسدّ هذه الفراغات والاختلالات. وكان من سمات ذلك إنزال ضربات قاسية على أنظمة دول حركة عدم الانحياز خلال ستينيات القرن الماضي.
وكذلك حدثت مرحلة فراغات واختلالات في ميزان القوى بعد هزيمة أميركا في حرب فيتنام 1976 لتواجه بعدها توسعاً عالمياً في النفوذ السوفيتي امتدّ من انغولا إلى أفغانستان. وقد أتاح هذا الظرف العالمي والإقليمي فرصة الثورة الإسلامية في إيران 1979 لاختراقه، ثم عادت أميركا لسدّ تلك الثغرات والفراغات والاختلال في ميزان القوى بينها وبين الإتحاد السوفيتي خلال مرحلة ريغان-تاتشر، وكان من علامات ذلك عدوان إسرائيل على لبنان في 1982، ثم دخول السوفيات في المأزق في أفغانستان مع ضربات أخرى في أكثر من مكان.
ولكن يلاحظ أن ما حدث من اختلال في ميزان القوى العالمي في المرحلة التالية لانتهاء الحرب الباردة، أي في العقدين الماضيين، جعل الفراغات فيه تتوسّع من دون أن تستطيع أميركا استعادة المبادرة كما حاولت مرحلة جورج دبليو بوش. بل اتسّع الخرق على الراتق حتى وصل الوضع العالمي إلى ما أُشير إليه في هذه الورقة أعلاه.
والسؤال هل يمكن أن تتكرّر عملية سدّ الفراغات والاختلالات في ميزان القوى كما حدث في النصف الثاني من القرن الماضي. أو بعبارة أخرى هل ستتمكن أميركا من استعادة زمام المبادرة والسيطرة على الوضع العام كما حدث في الستينيات أو الثمانينات من القرن العشرين أم أن الخط الانحداري لنفوذها الدولي العسكري والسياسي والاقتصادي سيظلّ هو السائد في المدى المنظور على الأقل؟ أو هل ستظل سائدة إلى مدى أطول حالة اللانظام العالمي مع سمة التعدّدية القطبية وبروز عدّة أقطاب إقليمية وتحقيق اختراقات من جانب المقاومات وقوى الممانعة وحتى الثورات الشعبية كما نشهد الآن؟
الجواب السريع هو عدم وجود مؤشرات ولو على مستوى الإرهاصات تسمح بالقول أن من الممكن لأميركا أن تستعيد قوّتها وتمتلك المبادرة العالمية والإقليمية من جديد ضمن المدى المنظور.
فمعادلات موازين القوى التي تبلورت مع بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تحمل سمات مختلفة جوهرياً عن معادلات موازين القوى التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية حتى انتهاء الحرب الباردة بل حتى انتهاء القرن العشرين نفسه أي بعد عشر سنوات من انتهاء الحرب الباردة.
فأميركا والغرب لم يعودوا قادرين على حشد الجيوش كما كانا في المراحل السابقة. ونشوء حالة تعدّد القطبية دخلت في مرحلة تجاوزت إمكان ضبطها واحتوائها ولاسيما بالنسبة إلى الصين وروسيا والهند. والاقتصاد الإنتاجي العالمي انتقل من الغرب إلى الشرق، ولم تعد التكنولوجيا حكراً على أميركا وأوروبا.
"نشوء حالة تعدّد القطبية دخلت في مرحلة تجاوزت إمكان ضبطها واحتوائها ولاسيما بالنسبة إلى الصين وروسيا والهند.
"
والنظام الرأسمالي العولمي دخل في أزمة صدّعت أسسه التي قام عليها، أي أنه في مواجهة ما هو أبعد من الأزمة الكبيرة الشبيهة بأزمة 1929-1932. فالحرب العالمية لإنقاذ الوضع جذرياً كما كان يحدث في الماضي أصبحت حرباً نووية، والحروب الصغيرة المحدودة كما أثبتت تجربة حروب أميركا جورج دبليو بوش الابن لم تنقذ الرأسمالية من أزماتها ولم تحقق النجاحات. بل أدخلتها في أزمات مالية أشدّ، وصلت إلى حدّ تصدّع البنيان من أساسه، وإن لم يسقط السقف والجدران بعد. وتكفي الإشارة إلى الديْن الداخلي والخارجي الذي راح يدخل في التريليونات والعشر تريليونات.
من هنا يمكن القول أن العالم سيعيش مرحلة طويلة من الفراغات والاختلالات في موازين القوى ومن الاختراقات الناجحة على مستوى أقطاب إقليمية أو دول إقليمية متنفذة كما سيشهد تنامي قوى المقاومة والانتفاضات والثورات، وربما انتقالها إلى مراحل أعلى في القيادة والدور وحتى السلطة.
_______________
باحث في الشؤون الإستراتيجية
مركز الجزيرة للدراسات