صحيفة الشرق القطريه الخميس 16 صفر 1432 – 20 يناير 2011
لا تدفنوا الرؤوس في الرمال – فهمي هويدي
أصل الداء الذي ساعد على قتل النظام في مصر أو تونس، قمعه الشديد لحرية الرأي والتعبير، وتكميمه لكل الأفواه، وسيطرته على كل وسائل الإعلام التي لم تكن تستطيع أن توجه نقدا لحكومته أو تصرفات بطانته.
وكانت نتيجة هذه السياسات استمرار الغليان تحت السطح.
بهذه القيود التي كبلت حرية التعبير حرم النظام نفسه من فهم أبعاد ما يجري تحت السطح، الذي ازدحم بمظاهر الزلفى والنفاق والحرص على ألا يسمع سوى ما يرضيه..
من ثَمَّ فإنه فقد جسور التواصل مع أجيال جديدة نهشت البطالة روحها وكرامتها، وكانت تلك الأجيال قوام الغضب العارم الذي اجتاح المدن.
قد يكون صحيحا أن النظام حمى البلاد من أخطار تنظيمات متطرفة عصفت بأمن الجيران. لكن الاستقطاب الحاد الذي عاشته البلاد طيلة السنوات الأخيرة، والاعتماد بالكامل على قوى الأمن فقط ، والعداء الشديد لكل رأي مخالف حرم النظام من مساندة قوى عديدة كان يمكن أن تكون جزءا من جبهته في الحرب على التطرف.
حين يقرأ المرء الفقرات السابقة سيجد أنها تصف الأوضاع في أقطار عربية عدة. صحيح أن حالة تونس التي تتصدر نشرات الأخبار هي أول ما يخطر على البال، لكن القارئ سيلاحظ أيضا أن تونس لا تنفرد بتلك الصفات، لأنها تنطبق أيضا على أقطار عربية أخرى مغربية ومشرقية.
والحق أن الفقرات كتبت في التعقيب على ما جرى في تونس، ولا غرابة في ذلك، حيث لا نكاد نجد في الحيثيات التي أوردتها أية مفاجأة.
لكن المفاجأة الحقيقية أن تلك الحيثيات تم إيرادها للتدليل على أن ما حدث في تونس يمثل حالة متفردة خاصة لا تنطبق على غيرها من الدول.
والمفاجأة الأخرى أن الذي كتب هذا الكلام زميلنا الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين المصريين (الأهرام 17/1/2011 (.
للدقـّة فإنه لم ينفرد بهذا الخطاب، لأن الصحف القومية تضمنت تعليقات أخرى عبرت عن نفس الموقف، وبذلت جهدا ملحوظا لإقناعنا بأن ما حدث هناك لا يمكن أن يتكرر في مصر، وإنّ الذين يلمحون إلى احتمال انتقال العدوى إلى مصر يعبـّرون عن تمنياتهم الخاصة ، بحيث إنّ أملهم ذاك لا يختلف عن عشم إبليس في الجنة.
لا أعرف إن كان الترويج لفكرة خصوصية وتفرد الحالة التونسية تمّ تطوعا من جانب بعض كتاب الصحف القومية الذين التقوا عليها «مصادفة»، أم أن ثمة توجيها بذلك، ولكن الذي أعرفه أن هناك فرقا حقا بين الأوضاع في تونس ونظائرها في مصر، ولكنه بخلاف ما ادعى زملاؤنا فرق في الدرجة وليس في النوع.
أعني أن ثمـّة أزمة واحدة في البلدين، ولكن تفاصيلها مختلفة في كل منهما.
أزمة الحريات وإقصاء الرأي المخالف واحدة، والاعتماد على الأمن واحد.
واحتكار السلطة والتفاف المنافقين والمهللين حول القائمين على أمرها مشهود هنا وهناك.
أما الغلاء الذي طحن الناس والبطالة التي أذلتهم ودفعت بعضهم إلى الانتحار، والفساد الضارب أطنابه في دوائر عدة، ذلك كله يكاد يكون وباء لم يسلم منه كل منهما.
ولا أنكر أنّ ثمـّة فرقا لابدّ من الاعتراف به في درجة تكميم الأفواه ومصادرة الآخرين وقمعهم، وربما كانت هناك فروق مماثلة في المجالات الأخرى، ولكن تلك الفروق لا تلغي وجود أصل الأمراض . وتظل محصورة في درجة الإصابة بها، وللعلم فثمة أوضاع في مصر أسوأ منها في تونس، أخص بالذكر منها حالة المجتمع المدني، الذي هو في تونس أقوى وأصلب عودا منه في مصر.
ونظرة على وضع اتحادات العمال والنقابات المهنية في البلد تشهد بذلك. إذ هي حاضرة هناك بقوة في حين أنها غائبة أو مغيبة تماما في مصر.
رغم أي تشابه يمكن رصده بين البلدين، فالذي لا شك فيه أنّ أحدا لا يتمنى لمصر أن تواجه ذات المصير الذي واجهته تونس. لكن التمني وحده لا يكفي، كما أن دفن الرؤوس في الرمال لا يفيد.
وللعلم فإن تجنـّب ذلك المصير ليس فيه سر ّ ولا سحر، حيث طريق الاستقرار وكسب رضا الناس معروف للكافة.
وهذا الطريق لا ينفع إلا من خلال الإصلاح السياسي الحقيقي وليس المزور، ومن خلال الالتزام بقيم الممارسة الديمقراطية وليس غشها أو الالتفاف عليها. والعبر في هذه الحالة عديدة وماثلة بين أيدينا. لكن المشكلة تكمن في كثرة العبر وندرة المعتبرين.
إنّ الذين لا يتعلمون من دروس التاريخ ينبغي ألا يلوموا إلا أنفسهم إذا ما ضاقت بهم الشعوب فانتفضت وألقت بهم في مزبلة التاريخ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق