Powered By Blogger

الخميس، مارس 17، 2011

اعتبروا يا أولي الألباب

اعتبروا يا أولي الألباب
لا يمكن لأي مراقب أن يتجاهل الاحتجاجات التي حصلت في تونس ومصر ، وما لبثت أن تحوّلت إلى ثورتين شعبيتين حقيقيتين أطاحت بنظامين عربيين تجمعهما الكثير من المشتركات مع العديد من الأنظمة العربية الأخرى .
ما حصل في تونس ومصر يمـثـّل تحولاً كبيراً لا يقتصر تأثيره على هذين البلدين بل على المنطقة العربية والشرق الأوسط ، بل والعالم أجمع . ذلك لأنّ الشعوب تتحرّك لأوّل مرّة في تاريخ العرب الحديث للتحرّر من استبداد وتسلـّط أنظمتها ، ولتقرير مصيرها بنفسها بعدما عانت طويلاً من التهميش والإفقار والقمع والفساد، وغيرها من الآفات والأمراض التي انتشرت في أجسام هذه الأنظمة كالسرطان .
لم يكن ثمـّة خيار آخر للخلاص أمام الشعبين التونسي والمصري إلا الثورة على ذلك الواقع البائس والمظلم، لاستئصال ما يسمـّى ورماً خبيثاً تفـشّى في مفاصل الدولتين ومؤسساتهما وحوّلها إلى مستنقع يعجّ بمختلف أشكال وأنواع وأصناف الفساد .
وإذا كان هذا الواقع ليس مقتصراً على تونس ومصر، لأنّ حدود إمبراطوريات الاستبداد والفساد تمتدّ إلى ما هو أبعد وأوسع، فإنّ هذا يعني أننا نشهد ( عاجلاً أم آجلاً ) تكرار للسيناريو التونسي أو المصري في بلدان عربية أخرى، ربما يكون السيناريو الثالث أو الرابع أو الخامس مختلفاً في الشكل أو النمط عن الأول والثاني ، لكن الجوهر أو المضمون سيكون واحداً ، وهو أنّ إرادة الشعوب ستنتصر وأنّ الكلمة الأخيرة ستكون لها ، بلا أدنى شكّ.
هذه لم تعد شعارات ، بل حقائق مؤكـّدة سيندم كلّ من لا يعترف بها من الحكام العرب أو يحاول المكابرة والهروب إلى الأمام من خلال استبعاد امتداد الثورات الشعبية إلى بلاده ، فالكيل قد طفح بالشعوب العربية ، وحاجز الخوف قد انكسر مرتين حتى الآن ، ولم يعد بمقدور الأنظمة العربية تجاهل مطالب شعوبها المشروعة في التحرّر من الاستبداد ، وتوقـِها الشديد المتنامي إلى حياة أفضل ، أكثر عدلاً وكرامة وحرية ، وأقل ظلماً وامتهناً وقمعاً .
إنّ ثمـّة رمالاً متحركة تسير بأسرع مما يتصوّر البعض، ويمكن القول أنها تقترب إلى التحوّل إلى إعصار يهزُّ أركان الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج ، ومن الخطأ الاعتقاد بأنّ هناك نظاماً بمنأى عمـّا جرى في تونس ومصر، ذلك لأنّ عجلة التغيير تحركت ولم يعدْ بمقدور أحدٍ إيقافها.
لعلّ الضمان الوحيد لاستمرار دورة حياة هذه الأنظمة وحكوماتها ، يتمثـّل في الإصلاح الحقيقي الشامل، ودون ذلك ستجد نفسها في مواجهة شعوبها التي تتوقُ إلى للحرية الكريمة وتتطلـّع للديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فلا مناص ولا خلاص لهذه الأنظمة سوى الإصلاح الجاد والعاجل والتخلـّص من الفاسدين وإشراك مواطنيها في صنع القرار، وفي مقدّمتهم الشخصيات الوطنية المشهود لها بالكفاءة والمصداقية ونظافة الكف .
ولن يكون هذا الإصلاح مثمراً ولا مجدياً إلا إذا عبـّر عن إرادة الشعوب ، وهذا يعني أنّ الإصلاح يجب أن يستند إلى القيم والمبادئ الديمقراطية الحقيقية، لا الديمقراطية الشكلية المزيـّفة والمشوّهة، وذلك لا يتحقـّق إلا عبر إقامة مجالس شعبية وبرلمانات يتمّ انتخابها بطريقة نزيهة وعادلة وشفافة من قبل الشعب .
من المؤكـّد الآن أنّ ما بعد ثورتي تونس ومصر ليس كما قبلها ، وإذا كان الإصلاح الاقتصادي والقضائي والإعلامي كافياً لامتصاص الغضب الشعبي قبل هاتين الثورتين ، فإنّ الأمر بات مختلفاً بعدهما ، ذلك لأنّ سقف المطالب الشعبية قد ارتفع ، وإذا كانت الشعوب مستعدّة لتأجيل التحرّر الكامل والانتقال نحو الديمقراطية مقابل أن توفـّر لها أنظمتها وسائل الحياة الكريمة وتحسين أوضاعها اقتصادياً ، فإنـّها لم تعد كذلك الآن بعدما حصل في تونس ومصر.
صحيح أنّ الديمقراطية ليست حلاً سحرياً لجميع مشكلاتنا أو علاجاً لكلّ آفاتنا وأمراضنا ، ولكنها وسيلة الحكم الأكثر تقدّماً وعدلاً ، والتي توصّل إليها الجنس البشريّ ، ومن دونها لا ملاذاً آمناً أو ممكناً للخلاص من الاستبداد والفساد والقمع والبؤس والتخلـّف والانحطاط ، السياسي والاقتصادي والاجتماعي .
أما أدوات الحكم التي لا تزال معتمدة في كثير من بلاد العرب، فقد انتهت صلاحيتها وأصبحت عـبئاً على أنظمة الحكم العربية ، التي لم يكن بإمكانها بعد الآن القول بأنّ الفوضى هي البديل عنها ، ولا يمكن أيضاً الاستمرار في انتهاج سياسة إلهاء الشعوب في البحث عن لقم عيشها وتحسين أوضاعها وظروف حياتها ، ولا الرهان على التباين الطائفي أو الإثني القائم داخل المكونات المجتمعية ، بهدف إضعافها وتخويفها من بعضها ، وإحكام السيطرة عليها على مبدأ ( فرّق تـسُد ) ، وبالتالي تبرير وتكريس الاستبداد .
هذا في الداخل ، أما في الخارج : فإنّ القوى الدولية والإقليمية الفاعلة لن تقتنع أبداً ، وبعدما حصل في تونس ومصر ، بأنّ الاستقرار اللازم للحفاظ على مصالحها في المنطقة العربية ، محكوم باستمرار دورة حياة الأنظمة القائمة فيها، وبهيمنتها على السلطة ، وأنّ البديل هو التطرّف والعنف والفوضى ، ذلك لأنّ ثـوّار تونس ومصر أثبتوا للعالم أجمع أنـّهم أكثر حرصاً على ضبط الأمن والحفاظ على الاستقرار وأجدر بالحكم من الأنظمة ذاتها .
لا شكّ أن الواقع العربي الراهن يحتـّم على الأنظمة العربية التحرّك نحو الإصلاح الداخلي الشامل بعيداً عن الحلول الترقـيعية المرحلية أو المؤقـّتة ، وهذا الإصلاح لن يكون مجدياً إلا إذا كان جديّاً وسريعاً ، وأفضى إلى نتائج فعلية وملموسة على أرض الواقع ، ولعلـّها سفينة النجاة الوحيدة المتبقـيّة أمام الأنظمة العربية، وعليها تحمـُّل مسؤولياتها التاريخية والانفتاح على شعوبها والتعبير عن إرادتها وتلبية مطالبها وطموحاتها .
لا تزال الفرصة قائمة أمام الأنظمة العربية ولكنها لن تنتظر طويلاً، والأجدر بها أنّ تستخلص العبر وتفهم الدروس ، وتعترف بحقائق ونواميس التاريخ قبل فوات الأوان ، لأنّ استمرار استبداد هذه الأنظمة وفسادها ومكابرتها وتهميشها لشعوبها سيسقطها ، برؤوسها وجميع رموزها .
سجّل يا تاريخ ... لقد قالها الشعبان التونسي والمصري من قبل الآن ، وها هي ليبيا واليمن والبحرين ، وستقولها شعوب عربية أخرى في وقت لا يبدو بعيداً ... اللهمّ إلا إذا اتعظ الحكـّام وأدركوا أنّ الاستبداد أصبح من الماضي ، وأنّ الرهان على أنّ الشعوب العربية لا تـثور قد سقط سقوطاً مدوّياً ، مزلزلاً القصور والعروش والكراسي .
                                                            
                                                                  محمّد صوّان
                                                            مؤسّس ورئيس الحزب

ليست هناك تعليقات: