" نجحت العملية لكنّ المريض قـد مات "
عندما قرأتُ منذ عقدين من الزمن إحدى الروايات العربية المصرية التي كـُتبت في النصف الأول من القرن الماضي كنت أبتسم أحياناً وأضحك أحياناً أخرى من جهل وتخلـّف المريض الصعيدي وأهله الغلابة ومن استغلال ذلك الطبيب المصري لأهل المريض في إحدى مشافي المدينة " القاهرة " المحشوّة بالمرضى المكدّسين على الأسرّة ، من غير توّفر علاج حقيقي لأسهل الحالات المتفشية عندهم .
تلك المشافي المكدّسة بالموظفين من أطباء وممرضين وإداريين ، دون نتيجة عملية وفعلية تـُذكر ، ودون أي نجاحات علمية يفتخر بها الفريق الطبي والإداري المسيطر على المستشفى ، بل كانوا مجرّد موظفين يتقاضون رواتبهم آخر كل شهر ثمناً لوقتهم الضائع ، ويستغلون مرضاهم ، الجهلاء بأبسط الأمور ، من غير رحمة أو شفقة أو إنسانية ، والفريق بمجموعه يعمل من أجل استغلال ذلك المواطن البسيط المسكين الجاهل الفقير والمُعدم .
وكنا نستغرب مدى حماقة ذلك المواطن البريء وكيف يُخرج ما في جيوبه مصدّقاً طبيبه صاحب الشهادة العالية والاختصاص الطبي الخارق التي جاء به واستورده من إحدى الجامعات الأوروبية أو الأمريكية ليعالج بها المواطنين من أهل بلده ، وليـُنهي مشاكلهم الصحية المتفشّية . فقد وضعوا له التشخيص وهيّاؤوا له الحلول ، كلّ الحلول السخيفة الممكنة والغير ممكنة ، وأفهموه : بأنّ الشفاء شبه مستحيل إلا بالرجوع إليهم لاستشارتهم ، وأنّ إجراء أي عمل جراحي للمواطن المغلوب على أمره أمر ليس بتلك السهولة ، إلا في حال وجود أحد من عناصرهم ضمن الفريق الجراحي .
وبغضّ النظر عن النتائج ، ليست المشكلة هي نجاح العملية أو فشلها إنـّما الأهم من كلّ ذلك أن يـبقى الفريق بنظر مرضاه ، إعلامياً على الأقل ، فريقاً ناجحاً ومتميّزاً . ويجب أن يكون المخطـّط الرئيسي والمشرف على العملية لبقاً حذقاً محترفـاً في جميع فنون الإقناع ، ومدركاً لجميع الطرق التي تصل به إلى الهدف المنشود ، فالغاية عنده تبرّر الوسيلة ، وإذا كان الحساب معدوم والمحاسب مشغول والرقيب مفقود والقضاء معطـّل فعند إذن سيبقى ذلك الفريق الخبيث يفعل كلّ المحرمات ، قبل فعل المباحات ، حتى يـُشبع غروره ويُـلبي أطماعه .
تلك حال معظم شعوبنا العربية مع كل فريق يتصدّر في الواجهة ويقدّم نفسه على أنه مدبّر حلوم الذي وحده يمكنه حلّ جميع مشاكل المجتمع ، و دون الرجوع والاستفادة من خبرات ونصائح غيره من الآخرين ، ممن يتشارك معهم العيش والمصير المشترك . نعم تلك هي مشكلة المشكلات في بلادنا العربية ، مشكلة كبيرة لم تتجرأ أي حكومة على الاعتراف بها والإقرار بحقيقتها .
ومشكلة مجتمعاتنا العربية أنها ابتليت بحكومات نصّّبت من نفسها حكماً على شعوبها وخصماً لها في آنٍ واحدٍ معاً ، من غير إرادة جماهيرية واقعية واسعة ، وجعلت من نتائجها الاقتصادية ، والسياسية أحياناً ، والمخيبة لآمال شعوبها غالباً ، الأضحية التي تتقدّم بها قرباناً للاستمرار والهيمنة ، وادّعت أنّ كلّ هذا التعثـّر في خططها الخمسية سـببه تخلـّف المجتمع ، وسـببه امتداد السيطرة الاستعمارية التي لم تترك حكوماتنا المجتهدة لتعمل بحرية . بينما السـبب هو تواجد أطراف أخرى من المجتمع ، مغـيّبة كلياً عن الساحة ، تنادي بالمشاركة والتشارك لتقديم خبراتها وما عندها لخدمة مجتمعها ، ويظنُّ الفريق الاقتصادي أنّ نداء تلك الأطراف المتخافت أحياناً ، والمستمر منذ عقود ، يعيق حركة تطوّر هذه الحكومات ويوقف مسيرة نجاحاتها المتعدّدة ، ويصرفها عن الهدف الحقـيقي المنشود .
ما أشبه ذلك الفريق الطبي في مشافي المدينة " القاهرة " بحكوماتنا المستعربة ، وما أشبه ذلك المواطن الصعيدي الغلـبان بشعوبنا العاربة ، التي جعلت من المقولة الشهيرة " طنّش تعـش " شعاراً لها وعربتها على طريقتها الخاصّة ، حتى وصلت إلى حدٍّ تعذّر معه العيش ، ولـو بلا كرامة ، ولم تعد ترى الشعوب من الانتعاش والازدهار أيّ منظر أو مشهد ، وحتى في حالة تعاطي أدوية الحلول المؤقـّتة المضادة للاكتئاب أو الهذيان .
وبعد كلّ ذلك الفشل الذريع بالمشاريع الإستراتيجية للحكومات العربية فإنـّها تدّعي أنّ العملية الاقتصادية تنمو بخطى سريعة ، وقد نجحت نجاحاً عظيماً لم تحقـٌقه معظم حكومات دول العالم المتقدّمة ، على الرغم أنّنا نرى الشعـوب العربية تموت من الجوع والذلِّ ، أو تكاد .
لقد وضعت حكوماتنا العربية شعوبها في الزاوية " خانة اليـَك " وحاصرتها تماماً حتى في طعامها وشرابها ، غير المُنعش . ومع كلّ ذلك كانت تدّعي ، وما زالت ، أنها حقـّقت بتفوّق وامتياز جميع الأحلام الوردية والتطلـّعات المستقـبلية لشعوبها العربية ، وأنّ هذه الشعوب تعيش الآن في رغد ورهف وسعادة ، وهناء وبهاء وصفاء لم تصل لمثل حالتها معظم شعوب العالم ، وخاصة في الدول المتقدمة منها ، وتدّعي باستمرار أنّ نجاحاتها الباهرة في كلّ شيء ستزيد من تلك البحبوحة الواسعة من العيش الرغيد ، حتى لو كانت مظاهر ذلك الرخاء والانبساط ، الناتج عن تلك النجاحات العظيمة ، التي رأيناها وسنراها في المستقبل القريب أو البعيد ، لم تظهر للعيان بعد ، ولم تبدُ لنا بجلاء وصفاء بسبب الغباشة المنسدلة على أعيننا أو بسبب غيمة الصيف التي استمرت عقود طويلة ، لم تظهر لنا بعد ، نحن الشعـوب المتخلفة حتى في رؤيتها ، والبسطاء في كلّ شيء ، وحتى لو لم يستفيد المواطن العربي السخيف من كلّ تلك النجاحات اللامعة والساطعة سطوع الشمس في منتصف الصيف ، وحتى إن لم تظهر تلك النـعم الوفيرة على ذلك المواطن الناكر للمعروف والجميل دائماً ، والذي يطمع بكلّ شيء حتى بعيشه بكرامة .
إذاً : لماذا لا تعترف حكوماتنا العربية بفشلها المتكرّر أمام شعوبها وتظنّ دائماً وبشكل سلبي ظنّ السوء بشعوبها ، وترى أنّ هذه الشعوب مغفـّلة ولا تعرف كيف تسير الأمور من حولها ولا كيف ، أو إلى أين تتـّجه !!.
كلّ ما يريده هذا المواطن المسكين ، الذي سحقته ظروف الحياة الصعبة ، أن يعيش هذا العمر الوحيد الذي وهبه الله تعالى إيّاه بكرامة مثل جميع شعوب الأرض ،.
ويريد هذا المواطن البائس من حكومته المتفائلة أن تشركه في مصيره ومصيرها وهمومه اليومية وهمومها الخمسية ، من غير تطنيش واستغفال أو استهتار بحياته ومعيشته .
يريد ذلك المواطن من النائب الاقتصادي أن لا يقول له أنّ اقتصادنا قد نجح وتطوّر ونما نمواً عظيماً ، لكنك أيها المواطن الطمّاع لن ترى شيئاً من تلك الفوائد تعود عليك ، فكلّ ما ربحه النائب ، حسب قوله ، من مؤسسات الدولة الخاملة ، إن كان يوجد ربحاً فعلاً ، محفوظ في الخزينة ولصالح الخزينة فقط ، وعليك أيها المواطن الجشع أن تتدبّر أمورك بأي وسيلة غير أموال الدولة . لذلك أدعـو حكومتنا الموقـّرة إلى الإفراج عن أرباح الأموال العامة التي تدّعيها وإعادة توزيعها على مواطنين من الطبقات الوسطى والمعدومة ، بشكل عادل حسب شرائحهم وحاجاتهم ، وحتى لا ينطبق علينا القول : " العملية – الاقتصادية - نجحت لكن المواطن قد مات - جوعاً " .
يريد المواطن البسيط أن يكونَ هو أول وآخر اهتمامات الحكومة ، فالحكومة في أيّ بلد هي حكومة لكلّ لشعب ، وليست حكومة بعض أفراد الشعب من حيتان رأس المال والاستثمارات ، ويريد أن تعود نتائج الخطط والإنماء وعائدات الاستثمارات والثروات الطبيعية وأرباح الشركات والمؤسسات العامة والخاصّة لكلّ أفراد الشعب وأن توزّع الحقوق بعدالة ومساواة على الجميع ، سواء على المدى القريب أو البعيد ، مثـلما تـُفرض عليه الواجبات والغرامات .
دمشق في 20/6/2010م .
م.أحمد راتب التيناوي
عضو المكتب السياسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق