حياة الأثر .. كيف نخلد في الحياة
للمرء حياتان في الدنيا:
حياة الإنسان في هذه الدنيا هي الفترة الزمنية الممتدة من ولادته إلى نهايته، وهو ما بينهما كادح يسعى لتحقيق أهدافه وغاياته، وقد تحسن فيحسن منقلبه وإيابه، وقد تسوء، فيسوء منقلبه وإيابه، {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} ومهما طال عمره وامتد فهو فترة قصيرة جداً لو قارنتها بعمر التاريخ، ولكن هل هناك حياة أخرى يعيشها الإنسان في هذه الدنيا؟ وتلقي بظلالها على كدح الإنسان وسعيه؟ قد يظن الكثير أن وجود الإنسان في الدنيا مقتصر على حياته التي يعيشها فيها ولكن هذا ظن يخالفه الصواب، فوجود الإنسان في الدنيا له تعلق آخر بها سوى الحياة التي يعيشها فيها، وبعبارة أخرى وجود الإنسان في الدنيا له مرحلتان، ويمكن القول: إن الإنسان يعيش في الدنيا حياتين ولكن بلا أدنى ريب الحياتان متمايزتان ومختلفتان، فالحياة الأولى يعيشها بجسده وذاته، وهي التي قدر الله لها عمرا فيها، ولذا سأسميها حياة القدر، والحياة الثانية يعيشها بأثره وظلال أعماله التي فعلها في حياة القدر، وسأسميها حياة الأثر، وهناك فارق آخر بين الحياتين، وهو أن كل الناس يعيشون الحياة الأولى، ولكن ليس كل الناس يعيش حياة ثانية، فكثير يدخلون الدنيا ويخرجون منها ولم يتركوا فيها بصمة أو أثر، لم يفتقدوا إن غابوا أو حضروا، ولم يفرح بوجودهم ولم يبك لعدمهم، وهؤلاء من لم يعرفوا سر الحياة ومغزى الوجود، غير أن الحياتين متشابهتين في نقطة جوهرية ومهمة، ولها من الخطورة الأهمية البالغة، وهي أن الإنسان محاسب على حياتيه، وكلا الحياتين تخضعان لمبدأ الثواب والعقاب، ولهذا المعنى يرشد ويدل القرآن والسنة، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} فدلت الآية بصريح النص أن الكتابة للإنسان له وعليه والتي هي وثيقة الحساب تشمل مرحلتين: مرحلة ما قدم: وهي المرحلة التي كان فيها موجودا بالحياة بشخصه وجسده، أي حياة القدر.والمرحلة الثانية: مرحلة وجود آثاره في الحياة الدنيا وهي آثار أعمال المرحلة الأولى، وهذه المرحلة هي حياة الأثر.ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم دلالات كثيرة أكتفي بواحدة منها كما وردت في قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا" أخرجه مسلم في صحيحه. فالحديث يثبت لمن سن السنة الحسنة أجرين ولمن سن السنة السيئة وزرين، فأولهما: مقابل لما فعله هو من سن السنة، وهذا في حياة القدر، وثانيهما: مقابل لمن اقتدى بسنته وسار عليها، والاقتداء بسنته من ظلال عمله، وهذا في حياة الأثر.و إذا علمت أيها القارئ الكريم أنك محاسب على الحياتين فلا شك أنك ستهتم بهما، ولكن أي الحياتين أولى بالاهتمام؟ بشيء من التأمل تدرك أن حياة الأثر أولى وأهم للاعتبارات التالية:
1 – أنها أطول بكثير من حياة القدر، مهما طال عمر الإنسان في حياة القدر فما أظنه يتجاوز بضعا من العقود، لكن حياة الأثر قرون وقرون إلى أن يعلن إسرافيل بصوره نهاية الحياة.
2- حياة الأثر تدل على عظمة صاحبها والعكس، وتبرز حقيقته ومعدنه، لأن الإنسان في حياة القدر تحوطه كثير من الاعتبارات تغطي كنهه ومعدنه، فإذا مات زالت الاعتبارات وبقي المعدن، ورحم الله من قال: "تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار". ولهذا فأصحاب الهمم العالية الطيبة، ومن يبتغي الربح في تجارته مع الله تعالى، تتعلق أنظارهم بأن يعيشوا حياة ثانية في الدنيا بآثارهم، كما قال شوقي رحمه الله تعالى:
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثان
نوافذ العبور إلى حياة الأثر:
وهنا يغدو السؤال المهم كيف لي أن أعمر حياة ثانية طيبة؟ أو كيف أجعل من حياة الأثر حياة مباركة؟ ويجيب على ذلك حديث النبي صلى الله عليه و سلم الذي يقول: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" أخرجه مسلم.فهذه ثلاث قنوات أو منافذ يلج الإنسان من خلالها إلى حياة الأثر.1- صدقة جارية:
وهي النافذة الأولى للدخول إلى حياة الأثر، والصدقة الجارية هي: تعبير عن كل مال يستخدمه صاحبه في مشروع خيري عام، وهنا لابد من التنبيه إلى مفهوم يتداوله الكثير من المسلمين ويروج له بعض الدعاة، وهو أن المال شر مطلق وخطر يجب الابتعاد عنه، وأن الإيمان والفقر أخوان حميمان ولا يبالون بالتدليل على ذلك بأحاديث الزهد، التي لم يوفقوا إلى فهما الفهم الصحيح، وهذا بحث متشعب لكن حسبي أن أقول هنا: إن المال عصب الحياة ولا يمكن لأمة فقيرة جائعة أن تحجز لنفسها مكانا في العالم، فمن يملك يحكم، وتأمل قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا من أموالهم}، وصدق جبران عندما قال: لا خير في أمة تأكل ما لا تزرع، وتلبس ما لا تنسج، وتشرب ما لا تعصر". ولذا لا بد من أن من التسلح بالمال لخدمة الرسالة وأهلها، ولعل من أهم وأجمل أنواع الصدقة الجارية الوقف، ذلك المعلم الرائع من معالم شريعتنا الغراء، والذي كان إلى العهد القريب أكبر رافد من روافد الحضارة الإسلامية، وعندما تطرق سمعنا كلمة الوقف يسرع إلى الذهن مفهوم الوقف إلى المساجد، ومع الاعتراف بأهمية بيوت الله ودورها في بناء الإنسان إلا أن الوقف إلى المساجد قد يكون أقل أنواع الوقف نفعاً للأمة، فلماذا لا تتوجه عناية المحسنين إلى الوقف على جهات مخصوصة للمسلمين، كالوقف على طلاب العلم، الذي يسهل سبل الدراسة والتحصيل العلمي للعاجزين عنه، والوقف على البحث العلمي الذي كثيرا ما يقف العجز المادي عائقاً عن متابعة ابتكار أو تحقيق نظرية علمية، والوقف على المرضى بشكل خاص أو مرض معين كالسرطان، حيث يستفيد من ريعه كل مبتلى ممن يسبق الفقرُ المرضَ إلى موته، والوقف على عزاب المسلمين الذين تلتهب الغريزة بين جوانحهم ولا يجيد طولا للعفة، والوقف على جمعيات القرآن الكريم، إلى غير ذلك من المشاريع التي تشكل قوة كبيرة في نهضة الأمة والتي لا تذهب آثارها بذهاب صاحبها، والخلاصة في هذا المحور أن الصدقة الجارية نافذة وأي نافذة للولادة في حياة الأثر. 2- علم ينتفع به:
قد يعتذر عن القناة الأولى كثير من الناس، لأن الناس متفاوتون في الرزق، كما قال الشاعر:
والرزق كالغيث بين الناس منقسم *** هذا غريق وهذا يشتهي المطر
ولذا فليلتمس لنفسه عبوراً من النافذة الثانية وهي العلم النافع، وبعيداً عن الوقوف عند مكانة العلم وأهميته في شرع الله، أريد الوقوف عند تنكير كلمة العلم لنتبين منها شمولية الدلالة وعموميتها لكل أنواع العلم، وهذا على رأي أن النكرة في الإثبات تفيد العموم، ولعله الصواب، لكن حتى يخرج من دائرة العلم الذي يفوز صاحبه بحياة طيبة في الأثر، من حاز علما كان سببا في هلاك الأمة و ضلالها، قيد العلم بكلمة (ينتفع به)، وليت شعري ما أطيب هذه الحياة لمن تحقق فيه هذا الوصف فهو الخالد على مر الدهور، ألا ترى اليوم لو استغلقت علينا مسألة فقهية طرقنا باب الشافعي وأحمد، وعندما نحار في قضية لغوية نهرع إلى سيبويه وابن هشام، وعندما نريد التزود من الحديث نأوي إلى واحة البخاري ومسلم، فما ضار هؤلاء أن خرجوا من الدنيا بأجسادهم ما داموا فيها بآثارهم، لكن الخزي على من هو الدنيا بجسده وخرج منها قبل موته بأثره، ورحم الله من قال:
ماتت أناس وما ماتت فضائلهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموت
و كما قال غيره:
ففز بعلم تعش حياً به أبداً *** الناس موتى وأهل العلم أحياء
3- ولد صالح يدعو له: وربما لا يقدر البعض أن يلج إلى حياة الأثر من هذا الباب، فالله تعالى فاضل بين الناس في العقول كما فاضل في الأرزاق، لكن لن يجد عذرا من تخلف عن الثالثة، فلا أقل من تربية صالحة كما قال المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
فالقيام بتربية الولد على الدين وإرساء قواعد الأخلاق ومكارمها في نفسه تجعل الولد أثراً طيباً من آثار أبيه، وكأني أشم من هذه الزاوية رائحة الدلالة على التربية السليمة الصحيحة، لذا فربما يجوز لي أن أفهم منها أن كل من ترك وراءه جيلا أرسى فيه قواعد الدين والخلق فإنه حي بأثره حياة طيبة.
معادلة الحضارة: ولتسمح لي قارئي الكريم أن أثير ذهنك قليلا وأطلب منك أن تفكر في سر تركيز النبي الملهم صلى الله عليه وسلم على هذه القنوات الثلاث، ولنتساعد سوية للوصول إلى المراد على حسب فهمنا، ألا ترى قارئي الكريم أن القناة الأولى (صدقة جارية) تشير إلى القوة الاقتصادية، إذ كيف يترك صدقة من لا مال عنده، وكيف يأتي المال من اقتصاد ضعيف، فهاهنا دعوة قوية لأن تمتلك الأمة قوة اقتصادية متينة، ومن ملك القوة الاقتصادية ملك الأساس للقوة العلمية والعسكرية والعمرانية وغيرها، ونحن نرى اليوم أصحاب القوة الاقتصادية كيف يتحكمون بمصير الأمم.والقناة الثانية (علم ينتفع به): يدل بوضوح تام إلى القوة العلمية والثقافية، وهي المرشد والموجه للقوة الاقتصادية فالمال بيد الجاهل كالسلاح بيد المجنون، والجهل واحد من أعداء البشرية الثلاثة (الجهل والفقر والمرض)، وقديماً قالوا: الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه.والقناة الثالثة (ولد صالح) تشير إلى القوة الأخلاقية والتربوية، فهي جمال القوتين السابقتين، فما قيمة المال والعلم إذا لم يثمرا الأخلاق والقيم الإيجابية، فقد يحققان مدنية ولكن لا يحققان حضارة إلا بثالثتهم، وواقع الغرب اليوم خير دليل.ومن هنا نجد أن معادلة الحضارة: علم ومعرفة + مال واقتصاد متين + قيم وأخلاق = حضارة.وباختصار هي: (عمق) ع: علم، م: مال، ق: قيم خلقية.
نهضة الأمة مسؤولية الجميع:
قد يظن البعض أن نهضة الأمة وإرساء الحضارة فيها مهمة منوطة بعنق فئة خاصة من الأمة، قد تكون العلماء على رأي البعض، ويرى البعض الآخر أنها الحكام، والحقيقة أن نهضة الأمة مسؤولية كل فرد فيها، من أرض القاعدة إلى رأس الهرم، ولعل هذا المعنى مشار إليه في الحديث السابق، فعندما يحث النبي صلى الله عليه وسلم كل فرد أن يبقيَ لنفسه أثراً بعد موته، ولا أثر يبقى إلا مما فيه نهضة الأمة وبعبارة أخرى عن من ينأى بنفسه عن خدمة أمته ولا يعيش إلا لنفسه، فذاك ميت وهو حي فضلاً أن يعيش حياة ثانية، فلا خلود في الدنيا ولا أثر إلا لمن عاش لأمته ودينه، وهذا هو العنصر الفعال في نهضة الأمة.
الخاتمة:
وأخيراً قارئي الكريم أريد من كل هذه الجولة أن أهمس في أذنك همسة بسيطة لأقول لك: الحياة لا تؤتى للإنسان إلا مرة واحدة، فاحرص أن تكون ناجحا في عبورها، وأن تكون حياة طيبة، وحذار من أن تكون صفراً على الشمال أو عددا لا قيمة له، والحذر كل الحذر من أن تدخل حياة الأثر دخولا سلبيا سيئاً، ترحل عن الدنيا بجسدك وتبقى آثارك تسوق لك اللعنات إلى برزخك، كمن أنقق ماله في معصية جارية أو لعنة مستمرة، أو من ترك وراءه علماً يُضَّل به، أو تربية منحطة تبقى شاهدة على بذاءة طبعه و تردي أخلاقه .
بقلم: الدكتورأيمن هاروش